كسر حاجز الخوف والثورة السوريّة في متابعات د. عزمي بشارة

فوزي الصدقاوي

يرصد عزمي بشارة الإرهاصات التي أعطت للحالة السوريّة، اندفاعها الاحتجاجي، ودعمت انطلاق نَفَسِها الثوري، وذلك من خلال تتبع سياقاتها التاريخية، وتقصي وقائعها المحليّة والإقليمية، وطبيعة الأداء السياسي للنظام السوري، الذي كان أحد الفاعلين الأساسيين، في إنضاج الشروط التاريخية للثورة السورية(1). إذ لم يف بشار الأسد بوعود الإصلاح، على الرغم من طول انتظار الشعب السوري، وعلى الرغم من نجاح المقاومة اللبنانية في صدّ العدوان الإسرائيلي عام 2006، وخروج النظام السوري من عزلته عام 2007. ما شكّل ظرفا ملائما داخليا وخارجياً، لإجراء إصلاحات مستوجبة.
لقد تنكّر النظام السوري، للمطالب الشعبية مستفيدا من الانفتاح على العالم، ومستثمرا الاعتراف بمحورية دوره في ملفات الشرق الأوسط من قبل الغرب والعرب على حدٍ سواء، وخاصة في علاقة  بالملف العراقي والملف اللبناني. ومنتهزا حاجة العالم إليه، وحاجة قوى الهيمنة الدوليّة في استقرار المنطقة، وفي قدرته على كبح جماح فاعليات العنف في المنطقة، والمساهمة في ضمان “استقرارها”.
وكانت الولاية الثانيّة التي تجددت لبشار الأسد في عام 2007، قد أسهمت وفق عزمي بشارة في تفعيل ديناميكيات اجتماعية وسياسية كامنة في عمق المجتمع السوري، لاسيما أنّ شروط تحفيزها ودوافع تجدد نشاطها، جاءت محمّلة بقرّارِ الحكومة السورية في أوائل أفريل 2008، بتبنى الأسد توصيات البعثة الاستشارية لصندوق النقد الدولي، المتمثلة في رفع دعم الدولة عن مشتقات النفط، ما جعل سعر المازوت يرتفع دفعة واحدة إلى ثلاثة أضعاف. وكانت موجة الجفاف أيضا، التي شهدتها سوريّة سنوات 2006-2009، قد تسببت في الإضرار بالقطاع الزراعي ومناطق ريفية واسعة، مما أدى إلى تفاقم ظاهرة النزوح من المناطق الريفية واستقرار النازحين السوريين في مخيمات بدائيّة في المنطقة الشرقية إلى محيط دمشق، حيث يُقدر مكتب الأمم المتحدة لتنسيق شؤون الإغاثة، عددهم بنحو مليون سوري، يعانون سوء التغذية. ويعيشون حياة الضنك، بعد فقدهم مصادر العيش.
وقد أنتجت هذه البيئة عشرات الآلاف من الشباب العاطل عن العمل، يبحثون في ساحات دمشق، عن عمل يومي. وبدلا من أن تعالج الحكومة هذه الأوضاع الاجتماعيّة، بصورة جذريّة، أوعزت إلى أجهزتها الأمنية، منع المنظمات الإنسانية والصحفيين من الدخول إلى مخيمات النازحين بهدف التعتيم على أزماته. ولم تقدم الحكومة لمثل هذه الأزمات سوى حلول مسكّنة، من خلال توزيع مساعدات غذائية بسيطة على 29 ألف عائلة تقطن قرى المنطقة الشرقية وبادية حمص وريف دمشق.
كما تضرر أغلب المواطنين في المحافظات السورية الحدودية (درعا وريفها، الريف الغربي الشمالي من حمص مدينة البوكمال في دير الزور، ريف حلب الشمالي، الحسكة). بعد صدور حزمة من القوانين أعطت للجهات الإدارية والأمنية، صلاحية منح الاستثناءات في حال تغيير الحقوق العينية للأراضي الواقعة في المناطق الحدودية، وهي مناطق زراعية أوهي نقاط تجارية حدودية. وباتت المشاريع الحيوية في المنطقة (حفر أبار، استثمار أراض أو بيعها، بناء مساكن، مراكز تجارية) تتطلب استثناءً من الجهات الأمنية والإدارية، ما جعل من حزمة القوانين هذه وسيلة لتحقيق الإثراء غير المشروع. لكنّه وفر أيضا أسبابا محفّزة لنمو الاحتجاجات في المناطق المذكورة آنفاً.
وعملت تركيا بعد الحرب على العراق، وخلال العزلة الدولية للنظام السوري بين عامي 2005 و 2008،  على تطوير العلاقات التركية – السورية من خلال عدد من الاتفاقيات الاقتصادية والتبادل التجاري والتسهيلات الجمركية للبضائع التركية، لكن ذلك كان أيضا، سببا في الاضرار بمصدر رزق عشرات الآلاف من المواطنين السوريين، في مختلف مجالات الانتاج المحلي مما اضطر مصانع كثير (مصانع ألعاب أطفال، الملابس والأحذية..) إلى غلق أبوابها بعد فشلها في منافسة البضائع التركيّة.
أمّا ما حدث من استملاك الأراضي من دون تعويض عادل، ومن ثمّ بيعها إلى  التجار والمستثمرين، وتحويلها إلى مشروعات خاصة للأثرياء فكانت هي الأخرى من بين أسباب الإحباط الرئيسي، إذ مثّل  سكان تلك المناطق الذين لحق بهم الضيم، (بساتين المزّة وكفرسوسة والمعضمية وداريا) وقود الاحتجاجات الشعبية مع انطلاقها في دمشق ومدن الريف الدمشقي ، وهم الذين سيلجؤون إلى العمل المسلّح في مرحلة لاحقة.
لقد كانت هذه السياسة الاقتصادية النيوليبراليّة، بإجراءاتها الارتجاليّة، في تقدير عزمي بشارة،  تُراكم أزمات اقتصادية واجتماعية، وتزيد في شعور الشعب السوري بالغبن نتيجة عدم وفاء النظام بوعوده مجددًا، فخلّفت احتقانات شعبية، وخلقت عوامل مـوضوعية ممباشرة وشكّلت الإرهاصات الأولى للثورة.
لقد نظّم سائقو سيارات الأجرة بداية عام 2008 إضرابا، بعد قرار رفع الدعم عن المشتقات النفطية، ما سبب في شل حركة النقل في دمشق ليوم واحد. وتكرر الإضراب الثاني لسيارات النقل، بعد أن منحت المحافظة رخص نقل لمستثمرين سوريين، عبر حافلات كبيرة، مما تسبب في الإضرار بمصدر عيش شريحة واسعة من عائلات دمشق الفقيرة. وفي غالب الأحوال كانت الأجهزة الأمنيّة، وعيا منها بهشاشة الأوضاع، تحاول احتواء المظاهر الاحتجاجية الأولى ، من خلال الحوار. بينما تشي الاحتقانات الاجتماعية بقرب انفجار الغضب الشعبي، مع ما يعنيه ذلك أيضا من أنّ فئات واسعة فقيرة ومضطهدة، مستعدّة لتحمّل كلّفة “ما تظهره من شقّ عصا الطاعة”.
وقد حدث أن امتنع مزارعي القمح والقطن والشمندر السكري، عن بيع الدولة محاصيلهم،  إلى أن قررت الدولة رفع سعر المبيع، كما  نظّم الطلبة في مدخل كلية الآداب في جامعة دمشق وقفة احتجاحية ضد قرار وزير التعليم العالي، منع دخول المُنقبات إلى حرم الجامعات السورية، فكان ذلك أول حراك طلابي احتجاجي من نوعه منذ عقود.
كما حدث أن تعرّض أحد أبناء التجار للضرب والإهانة على يدي أحد أعوان الأمن، ما أدى إلى تجمهر شعبي عفوي عُرف بحادثة الحريقة في 17 فيفري 2011 في دمشق. رفع خلاله المحتجون بعفويّة شعارين هما “حاميها حراميها”، و “الشعب السوري ما بينذل”. وفي 22 فيفري 2011، نظّم نشطاء المجتمع المدني وقفة تضامنية مع الشعب الليبي ضد قمع المحتجين في بنغازي. وكانت الشعارات التي رفعت ضد القذافي تستبطن معاني تحمل في دلالاتها نقدا شديدا لنظام الحكم في سورية، ومنها «خاين يلي بيقتل شعبه»، «يا حرية وينك وينك.. حكم معمر بيني وبينك»، و« ارحل، ارحل، يا قذافي». وبعد اعتصام السفارة الليبية ظهرت حملة الشعارات على الجُدران ومنها شعار “الشعب يريد إسقاط النظام” و”جاك الدور يا دكتور” .،  التي كانت  من نتائجها، ما أصاب أطفال درعا من محنة وعسف.
كان للاصلاحات المؤجلة، في المحصلة، أثرها المحبط في نفوس السوريين، وفيما كانت الثورات العربيّة التي اندلعت، قد ألهمت السوريين وحسّنت قابليّة  الثورة في نفوسهم، وبرهنت على أنّ البناء على مراكمة نضالات الأجيال، وإنضاج شروطها الموضوعيّة ، سيدفع بالسوريين إلى عدم العودة عن الثورة، متى انقدحت شرارتها، خاصة بعد أن جاءت تصريحات بشار الأسد لصحيفة وول ستريت جورنال في 31 جانفي 2011، رافضة لأيّ إصلاحات سريعة وجذرية، مبررة ذلك، بأن سورية تحتاج إلى بناء المؤسسات وتحسين التعليم قبل انفتاح النظام السياسي، وهو تأجيل لا يفيد معنىً جديداً سوى عزم القيادة السياسية العليا على التنكر لإجراء الإصلاحات لكونها ليست ذات أولويّة. ما يعني أن نظام بشار الأسد لم يكن قد فهم بعد أنّ تلك التحركات الاحتجاجية،  كانت أبلغ ما تعنيه، أن حواجز الخوف لدى السوريين باتت رخوة، كما يلاحظ بشارة، وأنّها أصبحت قابلة للكسر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) د. عزمي بشارة : سوريّة درب الآلام نحو الحريّة، محاولة في التاريخ الراهن، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2013.

أضف تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *