في الوقت الذي تراهن معارك الفرقاء على كسب الجماهير فإنّ الكتابة التاريخة تختط لقرّائها خطابا في ظلّ معارك ما تزال محتدمة وتراهن على “مقاربة الحقيقة” واستكشاف التجربة عارية قبل التركيب والتأويل وإنشاء المعنى
فوزي الصدقاوي
لماذا يجب كتابة تاريخ للثورة التونسية؟ ولماذا يجب أيضا كتابة تاريخ للثورات العربية المعاصرة؟ هل في الأمر ترف مثقفين أم هو مبحث جديد يتلهّى في مشاغله المؤرخون العرب؟
الواقع أنّ الكتابة في الثورة التونسية تزيد أهميّتها عن الحاجة إلى بناء سرديّة لأحداث غير معتادة، أو قراءة حيثياتها ورسائلها، ذلك أنّ الأحداث التي شهدتها تونس في 17 ديسمبر 2010 لن تتوقف عن مصاحبتها تحوّلات تاريخية عند أعتاب البدايات أو عند صدمة الوعي بالمفارقات.
لأنّ مثل هذا الحدث لا يستدعي على الحقيقة المؤرّخين لكتابة سردية في التاريخ، بقدر ما يستدعي باحثين بتعدّد اختصاصاتهم في العلوم الانسانيّة وأدوات تشريحهم ووسائل تحليلهم ومناهج بحثهم وبمقارباتهم المتنوعة، وكل العلوم الرديفة التاريخية والاجتماعية.
وتُعدّ هذه الجهود البحثية -حسب عزمي بشارة- ضرورية في حينها لأنها تعمل على إعادة تشكيل مسار الثورة ورصد تحوّلها من عملية احتجاجية إلى ثورة ثم عملية انتقال ديمقراطي(1)، ولتشخيص أحداث أخرى واقعة في الحال أو محتملة الوقوع، في ظلّ كلّ التغيرات الاجتماعية الكبرى في الوطن العربي، والتي ميّزت نفسها عن سابقاتها من “الثورات الانقلابية” بكونها “ثورات المواطنة”.
ومع اندلاع الأحداث في تونس، وجد الباحثون في الوطن العربي أنفسهم أمام انتفاضة سرعان ما استجمعت كامل قواها وتحوّلت إلى ثورة شعبية، ومن ثمّ نجحت في إسقاط نظام حكم استبدادي.
وقد بدا ذلك حدثا فريدا في العالم العربي، يشهد على ذلك، ما بلغت أركان العالم الأربعة، أصداؤه، وما اتسعت إليه تداعياته الإقليمية والدوليّة. والحدث كان نوعيا أيضا لمَا بدا أنّه ظاهرة سياسية لها عمق شعبيّ وامتداد جغراسياسي واسع، بحيث شكّل حدثا تاريخيا مفارقا لمجريات ما سبق، وافتتح ربيعا من الثورات في الدول العربية الأخرى. وكانت نموذجا لما توفّرت فيها من خصائص، ومميّزات كثيرة وفريدة.
لكن ما يعمل عزمي بشارة على إنجازه ليس كتابة تأريخ للثورة التونسية، وإنّما محاولة لبناء مقاربة تلاحق الأحداث في راهنيّتها وتفك شبكة ترميزاتها في سياقاتها الحيّة والمباشرة والمعلنة، وهي مغامرة تستبق الالتفاف على الحدث بوصفه معطى، قبل أن تجرفه آليات التعتيم والطمس وتدمير الأدلة وتشويش على الملقي.
وفي الوقت الذي تراهن معارك الفرقاء على كسب الجماهير أو قسم منها، فإنّ الكتابة التاريخة تختط لقرّائها خطابا في ظلّ معارك ما تزال محتدمة، وتراهن على “مقاربة الحقيقة” واستكشاف التجربة عارية قبل التركيب والتأويل وإنشاء المعنى.
وقد يكون عزوف بعض المؤرخين المحترفين عن محاولة كتابة تاريخ للثورة، وعدم المخاطرة لا يرتبط بمحاذير معرفيّة تتعلّق بكتابة التاريخ، لذلك فإنّ اعتذار بعضهم بأنّ الوقت ما يزال مبكرا على كتابة تاريخ الثورة، ليس قولا يمكن التسليم ببراءته بصورة مطلقة، وإنّما يعود هذا العزوف إلى عدم الرغبة لدى قسم من الباحثين والمؤرخين في الانخراط صراحة في بناء سرديّة تاريخية لا يجد له فيها دورا مناسبا أيديولوجيا أو سياسيا.
وربما تحمّله الكتابة كلفة أمنيّة وسياسية تضرّ بموقعه الاجتماعي وبمعاشه.
ولعله يمكننا أن نرصد تقدّم البحوث والدراسات التاريخية والاجتماعية والسياسية المتعلقة بالثورة التونسية والثورات العربيّة، وهي تتّسع وتتعدّد، كلّ ما زال خطر انتكاسة الحراك الثوري، وتقدمت الثورة نحو أهدافها، وبدا الانتقال الديمقراطي يتقدّم بخطى أكثر ثباتا.
وإذا كانت كتابة التاريخ الراهن/ الآني، مغامرة محفوفة بمخاطر حـَرْفِ “الحقائق” إلى جهة، ما تزال موازين القوة راجحة لفائدتها وتعمل لصالحها، فإن خوض هذه المغامرة من مسافة قريبة من الأحداث واقعيا وزمنيا مع توسّل الموضوعيّة، وأدوات البحث العلميّة، من شأنها أن تحصّن المغامرة وتتيح للباحث المجال لرصد الوقائع ومجرياته في زمنها الحقيقي والمباشر، ويسمح باستكشاف “الحقيقة” وهي في طور التشكّل، وفهمها في سياق “عقلانيّتها الخاص” على حدّ وصف غاستون بشلار، فمثل هذه المغامرة بشروطها تلك لا تحتاج إلى تفكيك الأساطير -كما يقول عزمي بشارة- لأنّ تلبيس الواقع على الناس وأسطرته وتضخيمه، على هوى سرديّة وظيفيّة ما، هو عمل لن يتم بعيدا عن رقابة المؤرخ ودراية الباحث والناقد واستقصاء الصحفي والمناضل السياسي والحقوقي… فأفضلية القرب من الحدث وروحه، تضع المؤرخين في وضع ممتاز من جريان الأحداث قبل أن تتمترس الروايات خلف مصادرات قبليّة، فالقرب من الحدث أفضليّة تستفيد منها المعرفة وحدها، من أجل “الحقيقة”، مادام شحذُ وسائل البحث العلمية أمرا مشروطا إبتداء.
كما يؤكّد عزمي بشارة، في سياق ما يبدو مغامرة أنّ كتابة تاريخ الثورات في حينها، في إطار ما يعرف اليوم بالتاريخ المباشر (Histoire Immediate). يضع المؤرخ أمام عدد من الفاعلين الحقيقيين لينهل منهم مباشرة ومن شهاداتهم، ويتيح للباحث فرصة كافية للتحقيق في “مسرح” التاريخ الحيّ، خدمة “للحقيقة”، كما يمنح الدارس فسحة واسعة من قابليّة التحقيق والتدقيق والمراجعة والمقابلة والمكافحة والاستدراك والفحص والاستقصاء، بما لن تسمح به تلك الواقعة التاريخية نفسها، إن فات أوانها، أو أختزلتها وثائق ومذكرات وتقارير، تشهد لها أو عليها.
ويُدرك الباحثون والمؤرخون أهميّة مغامرة الكتابة، بهذا النوع من المقاربة المنهجية والمعرفية، وما لنتائجها المستـخلصة مـن التاريخ المباشر والحـفر عميقا عبر “الـتاريخ اليومي” (l’histoire au quotidien )، إذا ما وضعوا في الاعتبار مهمة قوى الثورات المضادة التي ستتولّى تفكيك “السرديّة التاريخية للثورة” واستنفاد الجهد من أجل إعادة بناء “تاريخ جديد” بروابط ميتافيزيقية، مفارقة للتاريخ، تلبّس بها على عوام الناس وخواصهم وتعيد بها صياغة سرديات مغايرة، بهدف إسقاط الثورة في العقول، بعد أن تكون أُسقِطتْ في الواقع.
ومع أنّ الكتابة في تاريخ الثورات العربيّة -كما يصفها عزمي بشارة- مغامرة يُدْرَكُ قُصُورُها، فإنّ تحليل الأحداث وهي تجري دون توقّف، بمقاربة عابرة للاختصاصات في العلوم الاجتماعيّة، وبمناهج تحليل تعددية، تحقّق إلى حدّ بعيد نقلا قريبا لـ”روح الحدث التاريخي”، ومتّسقا مع منطق الأحداث وصيرورتها الداخلية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) – عزمي بشارة: الثورة التونسية المجيدة، بنية ثورة وصيرورتها من خلال يومياتها، مركز الأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، ط 1، 2012، ص496.