قضية عمرها 10 سنوات، تراوح مكانها بين أروقة المحاكم التونسية، ويتداولها القضاة سنة بعد أخرى ،وينشغل بها الرأي العام كلما صدر جديد في أطوارها. ملف الإعلامي سامي الفهري ،وشركة كاكتوس برود للإنتاج السمعي البصري أشهر ملفات الإعلام بعد الثورة في تونس. قضية متشعّبة وأطرافها مترامية بين السياسي والإعلامي والقضائي كُشف عن أول حكم فيها اليوم الثلاثاء 9 مارس بسجن سامي الفهري 8 سنوات وصهر الرئيس الأسبق بن علي بلحسن الطرابلسي 10 سنوات. كيف بدأت قضية شركة كاكتوس، وكيف تطوّرت لتصبح ملف فساد، وما علاقة صهر الرئيس بالموضوع؟
التلفزيون التونسي يفتح الملف
إبّان ثورة 14 جانفي 2011، رفعت إدارة التلفزيون الرسمي التونسي دعوى قضائية ضد الإعلامي سامي الفهري وصهر الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي بلحسن الطرابلسي، في قضية فساد مالي ونهب أموال عمومية من ميزانية التلفزة التونسية بغير وجه حق.
التلفزيون التونسي يقول إن سامي الفهري صاحب شركة كاكتوس للإنتاج السمعي البصري كان قد استغل النفوذ السياسي لشريكه بلحسن الطرابسي -صهر الرئيس بن علي سابقا- واستولى على معدّات المرفق العمومي لإنتاج مسلسلات، وبرامج والتمتّع بامتيازات بشكل غير قانوني مثل الحصول على النصيب الأكبر من عائدات إشهار البرامج التي أنتجتها الشركة، وهو ما تسبب في خسائر بملايين الدينارات.
قضية الفساد التي رفعتها التلفزة التونسية جرّت معها عديد الأطراف إلى جانب سامي الفهري وبلحسن الطرابلسي من ضمنهم المتصرّفة القضائية في الشركة و5 مديرين عامين سابقين للتلفزة التونسية والمستشار السياسي ومدير وكالة الاتصال في عهد بن علي عبد الوهاب عبد الله. كما صادر القضاء حصة الطرابلسي في الشركة والمقدّرة بـ 51%.
كاكتوس والفهري إمبراطورية إعلام أم فساد
كاكتوس برود للإنتاج السمعي البصري .. شركة على ملك بلحسن الطرابلسي شقيق زوجة الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي الذي أسّسها سنة 2002، واستغل نفوذه السياسي لفرض إنتاج برامج ومسلسلات وبثها عبر التلفزيون التونسي، وعلاقته بالإعلامي سامي الفهري المقرّب من عائلة الرئيس، ليكون المنتج والمدير في الشركة لكن رغبة كسب المال دفعت بالشركة إلى فرض قوانين غير عادلة في ما يتعلق بعائدات الإعلانات واستغلال التجهيزات العمومية.
وقد أنتج سامي الفهري بفضل شركة كاكتوس، ومعدات التلفزيون التونسي، برنامجي ألعاب وهما “آخر قرار” (2003-2005) و”دليلك ملك” (2005-2007)، وفي رمضان 2008 أخرج مسلسل “مكتوب ” الذي سخرت له ميزانية ضخمة، ثم بجزء ثان في رمضان 2009 قبل أن تنتج شركة الفهري والطرابلسي مسلسل “كاستينج” خلال شهر رمضان سنة 2010 بمعدّات وأموال التلفزة التونسية (تونس 7 سابقا).
وبعد الثورة غادر سامي الفهري استوديوهات التلفزة التونسية، وأسس أسس قناتين تلفزيونتين خاصتين ” التونسية ” ثم “الحوار التونسي” ،وأنتج برامج ومسلسلات بفضل شركة الإنتاج الخاصة كاكتوس. وتواصل النزاع بشأن الوضعية القانونية لنشاط الشركة إلى أن تخلّص الفهري نهائيا من كاكتوس عبر بيع حصّته وتأسيس شركة ثانية لإنتاج برامجه.
معركة مكافحة الفساد ونفوذ السيستام
تحرّكت النيابة العمومية سنة 2012 بناءً على القضية المقدّمة من التلفزة التونسية، وأوقفت سامي الفهري على ذمّة التحقيق، حيث مكث وراء القضبان أكثر من سنة قبل أن يغادر.
بعد مغادرته السجن عام 2018، تمسك القضاء باستقلاليته رافضا اتهامات بضلوعه في اتفاقات سياسية.
لم تحفظ القضية ولم يبرّأ الفهري ولا عبد الوهّاب عبد الله ولا مديرو التلفزة التونسية.بعضهم خرج في حالة سراح شرطي وآخرون قبعوا في السجن وبلحسن الطرابلسي في حالة فرار إلى كندا وفرنسا.
في الأثناء، عبّر سامي الفهري عن استعداده لتسوية ودية مع إدارة التلفزة التونسية يتعهّد فيها بتعويض الخسائر التي لحقت بالمؤسسة العمومية مقابل استعادته الأسهم المصادرة من شركة الإنتاج الخاصة بها التي بلغت 51%. طلب قوبل بالرفض خاصة من قبل نقابة التلفزيون التونسي التي أصرّت على التتبّع القضائي، وتعويض مالي بقيمة 50 مليون دينار.
تُثار القضية أحيانا ويخفت الضجيج عنها أحيانا أخرى طيلة السنوات الماضية، لتعود بقوة صائفة 2019 بإيقاف الفهري وإعادته إلى السجن.
طالت القضية حسابات وصراعات نفوذ بين الإعلام والسلطة وبعض التسريبات من محادثات بين فاعلي المشهد الإعلامي تؤكّد أن ملف الفهري اقتحمته السياسة وكمّمت حريته، على غرار المحادثة التي سُرّبت بين الإعلامي بوبكر بن عكاشة (صديق رئيس الحكومة الأسبق يوسف الشاهد) وأحد العاملين في قناة الفهري، والذي أعلمه من خلالها أن صاحب القناة سيعود إلى السجن قريبا وهو ما حدث فعلا.
قضى الفهري أكثر من سنة ونصف على ذمة التحقيقات ،وغادر أسوارالسجن شهر فيفري 2021، لكن القضية لم تُحفظ وتصريحات محاميه عبد العزيز الصيد غير مطمئنة وتحيل على أن الملف بقدر وضوحه قانونيا بقدر غموض تعاطي القضاء مع تفاصيله.
لقي سامي الفهري مساندة واسعة من أهل الإعلام والفن وشُنّت حملات تنديد بتعاطي القضاء مع ملفه ونادت عدة أصوات بالبت في القضية وغلقها نهائيا وطالبت بإطلاق سراحه فترة إيقافه.
الحكم النهائي في القضية
في ساعة متأخرة من مساء الإثنين 8 فيفري أدانت الدائرة الجنائية المختصة بالنظر في قضايا الفساد المالي بالمحكمة الابتدائية بتونس سامي الفهري وبلحسن الطرابلسي في قضية فساد مالي وقضت حضوريا بسجن الفهري 8 سنوات و10 سنوات غيابيا ضد بلحسن الطرابلسي الفار إلى فرنسا حاليا.
الحكم شمل غلق الملف المتعلّق بالتهم الموجهة إلى الرؤساء المديرين العامين للتلفزة التونسية ومستشار الرئيس الأسبق بن علي عبد الوهاب عبد الله بموجب قانون المصالحة الإدارية.
انطلقت الأصوات المنددة بالحكم واعتبرته جائرا في حقه، فيما رأى آخرون أن الفهري قد ارتكب خطأً في حق التلفزيون العمومي وما عليه إلا نيل جزائه بما حكمت العدالة.
وستتواصل أطوار القضية في مرحلة الاستئناف من أجل إلغاء الحكم أو تطبيق قانون المصالحة على الفهري كما هو الحال مع باقي المتهمين في القضية، وسيبقى صاحب قناة الحوار التونسي يرواح حياته بين السجن وخارجه إلى حين غلق القضية نهائيا، وقد تطول مدتها أكثر مما مضى في بقية الأطوار القضائية.