محمد بشير ساسي
ضمن أحدث فصول الإجراءات الاستثنائية بتونس، نُظّمت الانتخابات التشريعية في تونس يوم 17 من ديسمبر/كانون الأوّل 2022، وذلك بعد أكثر من عام ما بين معارك دستورية وقانونية طويلة، تسبّب فيها “مشروع سياسي” كان الرئيس قيس سعيّد قد فرضه على أرض “رخوة”، لبناء نظام جديد بقوة القوانين والمراسيم دون استشارة أحد.
نتائج هزيلة
وكان من الطبيعي جدا أن تُتوّج الحملة الانتخابية الباهتة -التي افتقدت السجال الانتخابي بين مرشّحين مغمورين وقليلي الخبرة السياسية والاتّصالية- بنتائج هزيلة لا تشبهُ سابقاتها لا من حيث المشاركة ولا السياقات ولا حتى في ردود الفعل حولها.
ورغم ما قيل بشأن انتخابات وُصفت بالمهزلة تدفعُ البلاد نحو حكم “الرجل الواحد“، ما يزال سعيّد متيّما بمشروعه “الإصلاحي” ومصرّا على عدم استيعاب الدرس السياسي. لا تعنيه نسب الإقبال المتدنّية التي باتت السّمة المشتركة في شتى المواعيد السياسية التي يبرمجها وفق مزاجه ومقاسه، بدءا من الاستشارة الإلكترونية مرورا بالاستفتاء على دستور أعدّه بنفسه، إلى انتخابات برلمانية ضعيفة بشهادة حتى من ساندوه في إرساء مشروعه.
تهوين الإخفاق
في البداية التزم “حاكم قرطاج” الصّمت إزاء نتائج الانتخابات قبل أن يعود إلى عادته القديمة، موجّها سهامه إلى من سمّاهم “بعض الجهات المعروفة” التي لم تجد شيئا تركّز عليه سوى نسبة المشاركة في الدورة الأولى للتشكيك في تمثيلية مجلس نواب الشعب المقبل، في حين أنّ نسبة المشاركة لا تقاس بالدور الأول فقط بل بالدورتين، حسب تعبيره.
أما رئيس الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات فاروق بوعسكر، فقد تجنّب إغضاب سعيّد، مؤكّدا أنّ نسبة المشاركة متواضعة لكنّها ليست بمخجلة، معتبرا أنّ “هذه الانتخابات هي الأنظف، لأنّها كانت خالية تماما من المال السياسي والتحويلات الأجنبية ومن شراء الأصوات”.
في كلّ مرة وبسياسة الهروب إلى الأمام نفسها، يحاول الرئيس قيس سعيّد في كلّ مرة التهوين من الإخفاق مردّدا الخطاب التخويني نفسه ضد كلّ معارضيه الّذين يسعون إلى ضرب الدولة من الداخل -وفق روايته- والحال أنّ المشهد العام يعكس عزوفا حقيقيا، وازدراءً واضحا لمشروع مجهول في ظلّ حالة اللاّمبالاة التي يتعامل بها القطاع الأوسع من التونسيين مع الحياة السياسية، خلال السنوات الأخيرة وسط وضع اجتماعي واقتصادي محتقن ومعقّد.
مجلس بلا صلاحيات
هنا تحديدا يطرح كثيرون عدة تساؤلات بعد “خيبة” الانتخابات ومآلاتها: كيف سيتصرّف قيس سعيّد إزاء “رسالة العزوف الشعبي“؟ وهل يعدّ ذلك شهادة وفاة لمشروعه أم تأسيسا جديدا لجمهوريته؟ ثم ماذا يُنتظر من دور للاتّحاد العام التونسي للشغل من أجل حسم أزمة تونس؟ ألا يكون الرئيس التونسي بذلك قد منح طيفا واسعا من المعارضة لتأسيس جبهة أكثر تماسكا وقوة لوقف سيناريوهات العبث السياسي؟
قبل الإجابة عن جلّ الأسئلة الحارقة يفرض معطى هام نفسه بين كل هذه الهواجس، ويتمثّل في محاولة فرض مجلس نواب بلا صلاحيات، وهذا في حد ذاته محرّك قوي للبعدين الشرعي والشعبي في علاقتهما بالأزمة السياسية في تونس .
الجميع يعلم على خلاف دستور 2014 الذي منح البرلمان سلطات تشريعية ورقابية واسعة، حدّ دستور سعيّد من صلاحيات السلطة التشريعية مقابل إسناد مزيد من الصلاحيات إلى رئيس الجمهورية، بما فيها بعض الصلاحيات التشريعية، وحصنه من أيّ مساءلة أو محاسبة أو إعفاء، ونزع عن البرلمان وظيفة المراقبة الفعلية لعمل الحكومة التي يعيّنها الرئيس وتعمل على تنفيذ سياساته. كما خصّ سعيد نفسه بـ“تقديم مشاريع الموافقة على المعاهدات ومشاريع القوانين المالية“، مؤكّدًا أنّ “لمشاريع رئيس الجمهورية أولوية النظر”.
وإضافة إلى ذلك، في إطار الحدّ من صلاحيات السلطة التشريعية، نص الدستور الجديد على أنّ “وكالة النائب قابلة للسحب“، في حين نصّ القانون الانتخابي على أنّه “يمكن سحب الوكالة من النائب في صورة إخلاله بواجب النزاهة، أو تقصيره البيّن في القيام بواجباته النيابية، أو عدم بذله العناية المطلوبة لتحقيق البرنامج الذي تقدّم به عند الترشح“؛ وهي صياغة عامة يمكن تأويلها وتطويعها بما يجعل النائب في خشية دائمة من عزله، خاصّة أن جل المرشّحين قدّموا وعودًا عريضة لناخبيهم في مجالات التنمية والتشريع والإصلاح السياسي والإداري؛ وهي وعود يعسر الوفاء بها في مجلس لا يحوز صلاحيات تذكر. وزيادة على ذلك، لم يعد مجلس النواب المؤسّسة البرلمانية الوحيدة وفق الدستور الجديد؛ إذ جرى توزيع الوظيفة التشريعية على مؤسّستين: هما مجلس نواب الشعب، والمجلس الوطني للجهات والأقاليم.
استفحال المأزق
في الواقع وإزاء هذا الوضع الراهن، باتت هناك قناعة راسخة لدى كثيرين بأنّ سعيّد أضاع بوصلة التوازن السياسي، ولا يريد الاعتراف بأنّ دائرة الضغوط بدأت تضيق أكثر عليه وعلى مشروعه الذي يحتاج إلى ما سمّاها التصفية السياسية لإرسائه. كما حذّر في الوقت ذاته من أنّ التطاول على الدولة ورموزها ليس من قبيل حرية التعبير، بل يرتقي إلى مستوى المسّ بأمنها وضرب وحدتها، وفق تعبيره.
نهج لا يختلف اثنان في أنه فاقم من مؤشّر استفحال المأزق السياسي الذي تمر به البلاد، ومنح كل المتربّصين بسعيّد كل ورقات ضغط جديدة لرفع سقف الضغوط ضده والتشكيك في شرعية المسار الذي دشّنه في صائفة 2021:
– الاتحاد العام التونسي للشغل رمى بكل ثقله في المعركتين السياسية والنقابية، داعيا إلى البحث عن خريطة طريق للخروج من أزمة قد تأتي على الأخضر واليابس، وفي كل مناسبة ظلّت المنظّمة الشغيلة الأكبر في البلاد توصل رسائلها التحذيرية إلى مسمع الرئيس سعيّد من “الانحراف” في الحكم صوب نظام يُشكّل تربة صالحة للاستبداد.
وعلى الأرض اختار الاتّحاد القادر -وفق تصور قيادات عدة- على تجميع القوى الوطنية التصعيد النقابي بعدما قرّرت الجامعة العامة للنقل التابعة له، تنفيذ إضراب عام في قطاع النقل برا وبحرا وجوا على خلفية تجاهل الحكومة مطالب النقابيين، ورفض النقابيين التام الخصخصة في المؤسّسات العمومية لقطاع النقل.
– جبهة الخلاص الوطني برئاسة أحمد نجيب الشابي طالبت برحيل الرئيس قيس سعيّد عبر انتخابات رئاسية مبكّرة، مؤكّدة أنّ البلد لم يعد يحتمل المزيد من الفشل في ظلّ “حكم منقلب” باتت نهايته وشيكة مع استعادة البلاد مسارها الديمقراطي.
– حركة النهضة -التي دخلت في مواجهة حادة ضدّ الرئيس بعد أن تمّت إزاحتها من المشهد السياسي، وهي الحزب الأكثر تمثيلية في البرلمان المنحل- تحصارها منذ فترة توقيفات وتحقيقات أمنية مع أبرز قياداتها، على غرار راشد الغنوشي وعلي العريّض.
فعلاقة النهضة المتوتّرة مع قيس سعيّد الذي يصنفها بالتلميح والتصريح على رأس قائمة زمرة الغارقين في الفساد، واتّهامها بالسعي إلى ضرب الأمن الداخلي والخارجي للدولة عبر اختلاق الأزمات، مكّنتها من الاقتراب كثيرا ممن كانوا خصومها السياسيين والأيديولوجيين بالأمس القريب، ورفع “صوت الضحية” لخطاب التقسيم والتحريض، وبث الكراهية والوعيد بالتصفية رموز المعارضة وأنصارها.
– مواطنون ضد الانقلاب دعوا إلى إجراء حوار وطني للتوافق حول خريطة طريق مجمع عليها، وإلى التمسّك بالنضال الميداني المقاوم من أجل إسقاط الرئيس ومحاسبته سياسيا وقانونيا.
– منظّمات غير حكومية تونسية من بينها نقابة الصحفيين، والجمعية التونسية من أجل الحقوق والحريات، والمنظّمة التونسية لمناهضة التعذيب، فضحت التهديدات التي تقوم بها هيئة الانتخابات ودور الشرطي الرقيب المستهدف لحرية الرأي والتعبير.
إخفاقات سعيد
خارجيا تكاد الأصوات الرافضة الوضع القائم تتناغم مع جبهة الداخل، حيث تُجمع حول أن ّمسار قيس سعيّد دقّ جرس إنذار مخيف، خاصة بعد امتناع قرابة 89% من التونسيين عن التصويت لبرلمان فقد صلاحياته تعبيرا عن استياء عميق وتبدّد الآمال في أن يحمل الرئيس الرفاه والكرامة للتونسيين، مثلما عكس الصمت الرهيب إدراك داعمي سعيّد أنّه بات غير قادر على حل كومة المشاكل.
كما هناك شبه إجماع في الغرب على أنّ الرئيس قيس سعيّد مُني بانتكاسات كبرى في شهر ديسمبر، وأنّ الأمور تسير من سيّئ إلى أسوإ بالنسبة إليه. ووفي هذا الإطار يحدّد السفير الأمريكي السابق لدى تونس غوردون غراي في مقال له نشرته مجلة “ناشونال إنترست”، تلك الإخفاقات في عدة مستويات، وقد بدأت تتراكم تحديدا برأيه منذ زيارة الرئيس التونسي إلى واشنطن للمشاركة في القمة الأمريكية-الإفريقية.
أول إخفاق كان قرار صندوق النقد الدولي في 14 من ديسمبر︎
تأجيل النظر في حزمة قروض لتونس تبلغ قيمتها 1.9 مليار دولار إلى أجل غير مسمى، لأنّ تونس لم تقدّم تفاصيل كافية حول حزمة الإصلاحات الاقتصادية على الرغم من أنّها في أمس الحاجة إليها.
أما الإخفاق الثاني فتمثّل في كون لقاء الرئيس التونسي مع︎وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن في 14 من ديسمبر لم يسر على ما يرام. وكشف مقطع فيديو نشرته وزارة الداخلية الأمريكية، وتضمّن الـ13 دقيقة الأولى من اللقاء، أنّ بلينكن اكتفى بتقديم ملاحظات تمهيدية قصيرة، فيما استفاض الرئيس التونسي في الحديث، وفشلت محاولاته الضعيفة لتلطيف الجو من خلال النكت، وكان في موقف دفاع.
ثالث الإخفاقات يتمثّل في لجوء سعيد إلى الأسلوب البالي ︎ الذي لطالما انتهجه الحكام الدكتاتوريون، والمتمثّل في إلقاء اللوم في مشاكل بلدانهم على جهات أجنبية، الأمر الذي يشي بتأزّم العلاقة بينه وبين إدارة البيت الأبيض المطالبة بتغيير سلوكه، من خلال استخدام نفوذها في المجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي لفرض شروط تتعلّق بالإصلاح الاقتصادي والسياسي، قبل منح أيّ قروض مالية لبلاده، وفق تصوّر غوردون غراي.
موازنة في الظلام
الجميع خلصوا إلى أنّ سعيّد لا يقبل النصيحة حتى وإن كانت من الأصدقاء في ظلّ فشل مدوي ينقل تونس إلى وضع سياسي مسدود، ويضعف موقفها في مفاوضاتها مع صندوق النقد الدولي. ومما زاد الطين بلّة إقرار طريقة قانون الموازنة العامة للعام المقبل، حيث لم يتضمّن أيّ إجابات مقنعة عن طرق تمويل القروض الخارجية والإشارة إلى مضمون الاتّفاق مع صندوق النقد الدولي، بالإضافة إلى توجّهه نحو رفع الدعم عن مواد أساسية بنسبة 26% تقريبًا.
وتعليقًا على ذلك، يرى مختصون أنه لم يكن هناك أيّ انضباط في إقرار الموازنة العامة لسنة 2023، بالإضافة إلى عدم احترامه الدستور” الذي أقره الرئيس في 25 جويلية/يوليو الماضي بعد وضع كل ما سيتحمّله من أعباء وضغط جبائي وتزايد الدين الخارجي في الظلام دون أن يعرف منه الشعب شيئا.
فصدور موازنة عامة عبر مرسوم رئاسي من دون العودة إلى الفاعلين الاقتصاديين ومكونات المجتمع المدني كافة، لا يمكن أن يقطع مع الماضي أو تسميته بقانون ثوري – كما يعتقد خبراء في الاقتصاد- وحجم الموازنة العامة بأكثر من 22 مليار دولار، يطرح تحديات عدة على صعيد كيفية تعبئة الموارد وسط ضعف في الاستثمار، و”أنّ ممارسة الضغط الجبائي” ستكون له تبعات على القدرة الشرائية للمواطنين والقدرة التنافسية للمؤسّسات.
سيناريوهات المشهد
إنّ الأحزاب والمنظمات الوطنية تقف اليوم على حقيقة الوضع الصعب للأزمة في تونس، والجميع يطالبون ببدائل لحلّها أولها شريطة تقديم كل أطراف الطبقة السياسية التنازلات لصالح الوطن لتكون في حجم اللحظة التاريخية، وهذا في حد ذاته يعدّ نقطة تحوّل لاستعادة ثقة التونسيين ودفعهم إلى الانخراط من جديد في العملية السياسية نحو تجربة ديمقراطية جديدة أكثر فاعلية لتونس.
وفي المحصلة، يمكن تصوّر ثلاثة سيناريوهات استشرافا للمشهد السياسي التونسي في ضوء الاقتراع الأخير على الانتخابات التشريعية غير المكتملة نتائجها، والتي كشفت تراجعا في مستوى شرعية النظام وفقدان الثقة في السياسات التي يسلكها الرئيس سعيّد:
السيناريو الأول: أن تُحدث الانتخابات رجّة عميقة في الحقل السياسي التونسي، بحيث يجد الرئيس قيس سعيّد نفسه لأول مرة مضطرا إلى الحوار مع معارضته المتزايدة، من أجل إعادة ضبط الحركية السياسية والدستورية في البلاد وتسييرها.
السيناريو الثاني: انفجار الوضع تحت وقع الأزمة السياسية المتفاقمة والانهيار الاقتصادي الذي وصل حدّا غير مسبوق بارتفاع نسبة التضخم إلى 10%، وتراجع نسبة الاحتياط من العملة الصعبة، واختفاء عدد مهمّ من المواد الغذائية والطبية من الأسواق
السيناريو الثالث: استمرار الأزمة الحالية ومواصلة الرئيس قيس سعيّد تنفيذ برنامجه، من خلال تنظيم دورة ثانية من الانتخابات البرلمانية ولو بنسبة مشاركة متدنية، بما يضمن له الاحتفاظ بصلاحيات تنفيذية قوية مع مجلس نيابي ضعيف ومشتّت التركيبة، على أن تواصل الأحزاب المعارضة خطتها في الاحتجاج من دون أن تنجح في قلب الموازين السياسية.
بصورة عامة تخيّم سحابة من القلق في سماء التونسيين بخصوص مسار 25 جويلية/ يوليو 2021 نتيجة تأزّم الوضع“، وبالتالي ستبقى علاقتهم مع المؤسّسات المحيطة بهم والبرلمان القادم إن كتب له التأسيس قائمة على الشك، وحتى مؤيّدي الرئيس سعيّد الذين تحمّسوا معه في البداية، ينفضّون من حوله اليوم بعد إدراكهم أنّ الشارع التونسي خاب أمله في مشروع سياسي يتآكل، وهو مستعدّ لتحريك المياه الراكدة قبل أن تغرق السفينة بالجميع.