يجمع خبراء المال والأعمال حول انسجام “قمة الويب 2025” (مع رؤية قطر 2030) التي وضعت خارطة طريق لتحويل “البلد الخليجي” الطموح إلى دولة متقدّمة..
محمد بشير ساسي
على مدار أربعة أيام وللعام الثاني على التوالي، قدّمت دولة قطر نفسها للشرق الأوسط وللعالم، محطّة مميّزة وقبلة جذابة للاستثمارات، بعد استضافتها “قمة الويب”، أبرز الفعاليات التكنولوجيّة الرائدة التي تجمع روّاد الأعمال والمبتكرين والمستثمرين وقادة القطاعات المختلفة من عدة دول للتواصل وتبادل الأفكار، وقد بدأت أول نسخة لها من دبلن عام 2009، ثم توسّعت لتنظم فعاليات تقنية سنوية في دول عدة حول العالم.
نسخة 2024
فما بين نسختي 2024 و2025، نجحَ البلد الخليجي الطّموح -وفق تقديرات عديد المسؤولين والشّخصيات المرموقة عربيا وعالميا- في تعزيز موقعه على السّاحة التكنولوجية العالمية وتحقيق نقلة نوعية في بيئة المال والأعمال والاستثمار وبناء اقتصاديات متنوّعة وتنافسية ومستدامة.
وخلال العام الماضي، حقّقت “قمة الويب قطر 2024” التي تميزت بمشاركة شخصيات عالمية نجاحا لافتا على عدة مستويات:
– استقطاب 15453 مشاركا من 118 دولة، وأكثر من ألف شركة ناشئة من 81 دولة لتحطّم العديد من الأرقام القياسية بعدما أصبحت أكبر تجمّع للشركات الناشئة الدولية في أول ظهور لها في قمة الويب، مع حضور غير مسبوق للشركات الناشئة من إفريقيا بحوالي 200 شركة.
– تحقيق القمة نقلة نوعية في بيئة الأعمال القطرية بالتوقيع على 24 مذكرة تفاهم (بين جهات قطرية ودولية رائدة)، الأمر الذي أسهم في دفع عجلة التقدّم للشركات الناشئة وبالتالي تحفيز الابتكار في المنطقة.
– إطلاق هيئة قطر للاستثمار صندوقا بقيمة مليار دولار لدعم روّاد الأعمال والشركات الناشئة بالمنطقة مع تركيز خاص على قطاعات مثل التكنولوجيا المالية والرعاية الصحية والتعليمية، بهدف تعزيز بيئة الابتكار محليا وإقليميا.
ويجري منح هذا الاستثمار بما يتلاءم مع حزمة حوافز أطلقها برنامج “ابدأ من قطر” لمساعدة الشركات الناشئة من شتى أنحاء العالم على إطلاق رؤيتها من قطر ودفعها إلى السوق الإقليمية الأوسع.
– استضافة الدوحة أول استوديو إبداعي لتيك توك في المنطقة، ما ساهم في تعزيز البصمة الرقمية لقطر في جميع أنحاء العالم (بالإضافة إلى تعزيز اقتصاد المبدعين).
– إطلاق وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات الأجندة الرقمية 2030 خلال القمة. وترسم الأجندة عبر 23 برنامجا إستراتيجيا خارطة طريق واضحة لتحقيق رؤية قطر للاقتصاد الرقمي القائم على المعرفة.
وجهة إقليمية
على الخطى نفسها، واصلت دولة قطر السير على طريق الطموح والإبهار، ووفق التوقعات، كانت على موعد مع نسخة ثانية من “قمة الويب” حافلة ومليئة بالتحديات والمخرجات والتأثيرات مثلما أوضح ذلك رئيس الوزراء وزير الخارجية القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني بأن قطر تعيد تشكيل اقتصادها بالكامل لتكون الوجهة الإقليمية الأولى للشركات الناشئة.
وخلال كلمته أمام “قمة الويب قطر 2025″، أعلن المسؤول القطري أنّ 6 صناديق رأس مال عالمية ستفتح مكتبا أو مقار لها في قطر (تركز على مجالات مثل التكنولوجيا المالية والتقنيات المناخية) بهدف تحقيق فائدة إقليمية، وذلك بفضل اتفاقات وقعها جهاز قطر للاستثمار مع شركات وكيانات استثمارية لنشر رأس المال محليا وعالميا.
وفي الواقع تعكس خطوة إطلاق صندوق استثماري بقيمة مليار دولار، استخدام قطر الثروة السيادية لجذب رأس المال الاستثماري للبلاد في مساعيها لأن تكون مركزا إقليميا لرأس المال الاستثماري مخصّص لدعم الشركات الناشئة في قطر والمنطقة، بهدف سد الفجوة التمويلية وتمكين رواد الأعمال من تحقيق نمو سريع.
كما نقل عن رئيس الصناديق في جهاز قطر للاستثمار محسن بيرزادا على هامش “قمة الويب قطر 2025″، أنّ صندوق الثروة السيادي في قطر يعكف على تقييم 8 شركات لرأس المال المخاطر لإضافتها إلى برنامج “صندوق الصناديق” الذي استثمر بالفعل نحو 500 مليون دولار في 6 شركات.
ويمثّل برنامج رأس المال المخاطر أقل من 0.2% من حيازات جهاز قطر للاستثمار، التي تقدّر بنحو 526 مليار دولار. ولم يذكر جهاز قطر للاستثمار الصناديق الإضافية قيد الدراسة.
ملتقى الطموح
كعادته رسّخ الحدث مكانته كأكبر ملتقى للشركات الناشئة في الشرق الأوسط والذي جمع نخبة من رواد الأعمال والمستثمرين والخبراء في قطاع التكنولوجيا، مسجّلا مشاركة قياسية تجاوزت 25700 شخص من أكثر من 120 دولة، بزيادة تفوق 10 آلاف مشارك عن النسخة الماضية، ومشاركة 723 مستثمرا و1520 شركة ناشئة منها 47% أسستها سيدات، بزيادة 51% عن نسخة العام الماضي…
وشهد جناح “ابدأ من قطر” إقبالا واسعا من المشاركين في الحدث العالمي، في ضوء الحوافز التي أعلن عنها مركز قطر للمال قبيل انطلاق القمة، حيث سجّلت أكثر من 1634 شركة بياناتها لتأسيس مكاتب لها في دولة قطر، وقد جرى بالفعل الانتهاء من منح تراخيص لـ156 شركة خلال أيام القمة.
وبلغ عدد مذكّرات التفاهم التي جرى توقيعها خلال القمة الـ56، بين المؤسسات القطرية وأبرز شركات التكنولوجيا العالمية، بهدف تعزيز الابتكار وريادة الأعمال في قطر، ما يمثّل أكثر من ضعف عددها في نسخة العام الماضي.
في إطار خطط قطر كي تصبح وجهة رئيسية للتكنولوجيا توفر خدماتها في الشرق الأوسط وإفريقيا والهند، أفردت قمة الويب 2025 مساحة واسعة للنقاش بخصوص الذكاء الاصطناعي الذي استحوذ على 17% من إجمالي الشركات الناشئة المشاركة، تلاه قطاع البرمجيات كخدمة، والتكنولوجيا الصحية، والتكنولوجيا المالية، والتعليم.
كما شهدت القمة 120 جلسة تفاعلية مدعومة بالذكاء الاصطناعي لتعزيز التواصل والتعاون بين الخبراء والمبتكرين.
إلى جانب الذكاء الاصطناعي، برزت الحوسبة السحابية والبنية التحتية الرقمية أساسا ممكنا لهذه الابتكارات.
وقد استفادت قطر في الأعوام الأخيرة من دخول شركات عالمية مثل مايكروسوفت وجوجل إلى السوق المحلية عبر إنشاء مراكز بيانات سحابية إقليمية. فعلى سبيل المثال، افتتحت مايكروسوفت أول منطقة بيانات سحابية لها في قطر عام 2022، تلتها غوغل كلاود بافتتاح منطقة سحابية في الدوحة عام 2023.
انسجام مع رؤية 2030
يجمع خبراء المال والأعمال في منطقة الشرق الأوسط حول انسجام “قمة الويب 2025” بشكل وثيق مع رؤية قطر الوطنية 2030 (خطة تنمية تم إطلاقها في عام 2008) التي وضعت خارطة طريق واضحة لتحويل “البلد الخليجي” إلى دولة متقدمة تعتمد على الاقتصاد المعرفي والتنمية المستدامة واستقطاب المواهب وتوطين التكنولوجيا.
فمنذ إطلاق رؤيتها الوطنية وظّفت دولة قطر كل إمكانيتها الاقتصادية والاستثمارية وطاقاتها البشرية توظيفا مدروسا ورشيدا ضمن تصور شامل بعيد الأفق يرسم تصورا لمجتمع حيوي مزدهر تسوده العدالة الاقتصادية والاجتماعية كما تروَج له القيادة السياسية في قطر.
وشهدت المرحلة الأولى من التنمية بناء العديد من المؤسسات الوطنية الرئيسية ومن بينها جهاز قطر للاستثمار والخطوط الجوية القطرية ومؤسسة قطر، بينما نجحت الدولة خلال المرحلة الثانية في تطوير البنية التحتية الحيوية، والتي أثبتت متانتها في مواجهة التحديات، ومن بينها جائحة كوفيد-19، كما أسهمت في نجاح تنظيم نهائيات كأس العالم 2022.
وتهدف إستراتيجية التنمية الوطنية الثالثة إلى مواصلة الجاهزية لمواجهة التحديات والانتقال بدولة قطر إلى مصاف الدول المتقدمة بحلول عام 2030.
ووفق التطلعات ترنو قطر -استرشادا بالرؤية الوطنية 2030 وعبر تنفيذ إستراتيجي للمرحلتين الأولى والثانية- في تحقيق نتائج إستراتيجية خلال السنوات المقبلة:
– نمو اقتصادي مستدام: تسريع وتيرة النمو الاقتصادي بمعدّل نمو 4% سنويا حتى 2030 عبر توسيع إنتاج الغاز وتسريع نمو أنشطة التنويع الاقتصادي، وإنشاء تجمعات اقتصادية تخصصية، وبناء منظومة ابتكار حيوية تعتمد على القطاع الخاص، وزيادة إنتاجية القوى العاملة بنسبة 2% سنويا.
– الاستدامة المالية: إعداد موازنات عامة أكثر استدامة وقدرة على مقاومة الصدمات، والوصول إلى ميزانية عمومية مرنة تتميز بمستويات صحية من الديون. تهدف قطر إلى زيادة مساهمة القطاعات غير الهيدروكربونية في الإيرادات الحكومية.
– قوى عاملة جاهزة للمستقبل: رفع نسبة العاملين المهرة إلى 46% عبر تحسين سياسة الاستقدام، كما تهدف الإستراتيجية إلى توظيف أكثر من 20% من القوى العاملة القطرية في القطاع الخاص والمشترك.
– مجتمع متماسك: بناء وتعزيز أسر قوية تشكّل حجر الأساس للمجتمع وتوسيع السياسات الأسرية الداعمة للإنجاب، والزواج وزيادة المرونة في عمل المرأة. كذلك رفع معدّل الخصوبة ليصل إلى متوسط 3 مواليد لكل امرأة، وإطلاق الرعاية الاجتماعية المنزلية لكبار السن، ووضع إستراتيجيات للوقاية من العنف الأسري، وتوسيع المراكز الاجتماعية لذوي الإعاقة.
– حياة عالية الجودة: توفير حياة عالية الجودة لشعب قطر وجعلها وجهة عالمية جذابة. ويشمل هذا الطموح مجالات رئيسية كالتعليم والرعاية الصحية والترفيه والثقافة والبيئة والسلامة العامة.
– الاستدامة البيئية: العمل على ضمان كفاءة إدارة عناصر البيئة وحمايتها.
ستلتزم قطر بخفض انبعاثات الغازات الدفيئة بنسبة 25%، وترشيد استهلاك الكهرباء والماء وزيادة كفاءة إنتاجهما، وتشجيع الانتقال إلى وسائل نقل أكثر استدامة.
– مؤسسات حكومية متميزة: بلوغ الريادة العالمية في الخدمات الحكومية والحكومة الرقمية، بحيث تصل نسبة رضا العملاء إلى 85% على الأقل ورقمنة 90% من الخدمات والتركيز على زيادة الربط بين الأنظمة وتحسين تبادل البيانات بين الجهات الحكومية.
اقتصاد واعد
وبما أنّ التقدم الاقتصادي والاجتماعي للمجتمعات الحديثة لم يعد يخضع للتطور التلقائي أو يترك رهنا للظروف المتغيرة، فإنّ دولة قطر بقيادة أميرها الشيخ تميم بن حمد آل ثاني رسمت إستراتيجية طويلة الأمد ذات أهداف مرسومة مسبقا عمادها الرؤية الواضحة والتخطيط السليم اللذين أثمرا عدة نتائج مبهرة عربيا وعالميا عكست صمود الاقتصاد القطري في وجه التحديات العالمية التي شهدها العالم خلال السنوات الأخيرة، بدءا من وباء كوفيد-19 وصولا إلى الحرب الروسية على أوكرانيا.
ويرى مراقبون أنّ قطر استفادت بشكل كبير من عدة عوامل خلال السنوات الأخيرة لتحقيق نسبة نمو جيدة وفق بيانات جهاز التخطيط والإحصاء القطري.
– تنظيم حدث عالمي مثل بطولة كأس العالم لكرة القدم 2022.
– ارتفاع أسعار الطاقة التي تعتبر قطر أحد أكبر منتجيها في العالم.
– التشريعات المحلية التي ساهمت في زيادة الاستثمارات.
– التوسع في الاستثمارات الخارجية.
– مساهمة القطاعات غير النفطية في زيادة الدخل القومي.
في الوقت الحالي، يعتبر اقتصاد قطر واحدا من أقوى الاقتصادات الإقليمية، كما أنه من أكثر الاقتصادات الواعدة على مستوى العالم، وقد أكّد المجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي هذا الجانب في بيانه الختامي في جانفي 2024 حين قال: “تبقى قطر متينة أمام الصدمات العالمية الأخيرة وتوقعاتها الاقتصادية إيجابية. وتدعم توقعاتها الإيجابية على المدى المتوسط التوسع الكبير في إنتاج الغاز الطبيعي المسال في الحقل الشمالي والمكاسب المتوقعة من تنفيذ إستراتيجية التنمية الوطنية الثالثة”.
وبالفعل أظهرت البيانات الصادرة عن تقرير معهد الدولي للتنمية الإدارية (IMD) في سويسرا ارتفاع ترتيب دولة قطر في تقرير التنافسية العالمي للعام 2024 إلى المرتبة الـ11 عالميا، مقارنة بالمرتبة الـ12 في العام الماضي، من بين 67 دولة، أغلبها من الدول المتقدمة.
وشملت المحاور التي احتلت فيها دولة قطر مراتب متقدمة في التقرير، كلا من محور الأداء الاقتصادي، المرتبة الرابعة عالميا، ومحور الكفاءة الحكومية، المرتبة السابعة عالميا، ومحور كفاءة قطاع الأعمال في المرتبة الـ11 عالميا، كما جاء ترتيب دولة قطر في محور البنية التحتية في المرتبة الـ33 عالميا.
أثبتت قمة الويب قطر 2025 أنها أكثر من مجرد حدث تقني عابر، بل هي محطة تحولية ضمن مسيرة قطر نحو المستقبل. فالقمة بمضامينها ومخرجاتها جسّدت العديد من تطلعات رؤية 2030، وأعطت دفعة قوية لمنظومة الابتكار المحلي، وجسّرت الهوة بين قطر والمشهد التقني العالمي.
ومع استمرار الالتزام الحكومي والاهتمام الدولي بهذا الحدث، يُنتظر أن يواصل إحداث تأثيرات إيجابية متزايدة عاما بعد عام، وربما تصبح الدوحة بحلول 2030 عاصمة إقليمية للتكنولوجيا بلا منازع، مستفيدةً من تراكم استضافتها لقمم الويب ومبادرات أخرى، وليكون لها دور فاعل في رسم ملامح مستقبل الويب إقليميّا وعالميّا انطلاقا من أرض قطر.