سياسة

قصة الاندماج بين تونس وليبيا…كيف استغل القذافي شيخوخة بورقيبة لإعلان أقصر مشروع وحدة عربي؟

قصة وحدةٍ دمج دولتين كانت الأقصر عمراً والأغرب في التاريخ العربي المعاصر، لم تتجاوز مدّتها أربعا وعشرين ساعة قبل إجهاضها، وإنهاء مشروع “الجمهورية العربية الإسلامية” الذي ولد ميثاقها سنة 1974 على إحدى ورقات فندق “أوليس” بجزيرة جربة جنوب تونس.

لعل الأجيال الشابة في تونس وليبيا تجهل حقائق هذا الفصل المثير من التاريخ المشترك بين البلدين، والذي لو قُدّر له أنْ يتحقّق لأسهم في تغيير خارطة المنطقة، والتوازنات الإقليمية في منطقة المتوسط وشمال إفريقيا أو ربما أحدث كارثة مضاعفة اليوم بالنظر إلى مصير ليبيا الآن.

أحلام القذافي الوحدوية

يختلف المؤرّخون والمعاصرون في تقييم المشروع، والعوامل التي أسهمت في نهايته بشكل دراماتيكي، أدّت إلى توتّر العلاقات الدبلوماسية ما بين الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة والزعيم الليبي الراحل معمّر القذافي لسنوات طويلة، بلغت حدّ التراشق الإعلامي والمؤامرات المتبادلة.

لم تحْظ الظروف السياسية والتاريخية التي أحاطت بولادة مشروع الاندماج بين تونس وليبيا بدراسة معمّقة حتى اليوم، من جانب المخْتصّين والباحثين في الشأن السياسي، لكنّ المؤكّد أنّ لقاء القمّة الذي عُقد بلا ترتيب مسبّق في جزيرة جربة، كانت نتائجُه السياسية بدورها غير منتظرة وصاعقة للنّخب السياسية التونسية وكامل المنطقة المغاربية.

جاء إطار الوحدة مع تونس ضمْن سياق تحوّل اهتمام العقيد القذافي من المشرق نحو مشروع المغرب العربي، باعتباره تجمّعا إقليميا يُمكّن ليبيا من تبوُّء مكانة أكثر عمْقا وتأثيرا في محيطها الجغرافي.

لم يتخلّ القذافي عن أحلامه الثورية الوحدوية التي نادى بها من وصوله إلى السلطة، فبعد إخفاق ميثاق الجمهوريات العربية المتّحدة المُوقّع مع مصر وسوريا، بدأ تفكيره يتّجه نحو الوحدة المغاربية في إطارها العربي.

غيبوبة بورقيبة

يُثير الحديث عن إعلان الوحدة بين تونس وليبيا سؤالا جوهريا ما يزال يُخامر الباحثين والدارسين، ما الذي أقنع بورقيبة بقبول الطرْح الوحدوي للقذافي، وهو  الذي كان قبلها بسنتيْن فقط من أشدّ المعارضين لأفكاره ؟

رفْض بورقيبة تجسّد في خطاب البالماريوم ( تونس) سنة 1972م، والذي ألقاه تعقيبا على حديث القذافي على المنصّة داعيا إلى الوحدة العربية.

لم يُخف يومها بورقيبة سخريته اللاذعة من “أوهام العقيد”، داعيا إياه إلى استكمال توحيد الأقاليم الليبية قبل التفكير في المشروع العربي.

يُقرّ الوزير الأول الراحل محمد مزالي في كتابه “نصيب من الحقيقة”، أنّ إعلان الوحدة الاندماجية كانت “مؤامرة جرّ إليها بورقيبة من طرف بعض أفراد حاشيته ووزرائه”، مُستغلّين مرضه وضعف تقديره للأمور وفي غياب وزيره الأول الهادي نويرة.

هشاشة الوضْع الذهني للرئيس التونسي بسبب تقدّمه في السنّ، سببت له حالات “فقدان وعي” بما يحيط به وعدم الإدراك السليم للأشياء، بحسب رواية مزالي، وهو الأمر الذي استغلّه وزير الخارجية الأسبق محمد المصمودي الذي كان معروفا بصلاته الوطيدة بالزعيم الليبي، لعقد مؤتمر قمّة بين الرئيسيْن.

ساعة ونصف من المباحثات خرج على إثرها الرجلان لإعلان الوحدة بين تونس وليبيا، وتأسيس الجمهورية العربية الإسلامية التي سيكون بورقيبة رئيسها والقذافي نائبا للرئيس ووزيرا للدفاع.

استغلّ القذافي ضعف بورقيبة الذهني والنفسي، وغياب مستشاريه السياسيّين الذين استبعدهم المصمودي، لتهيئة الأجواء لتمرير المشروع الذي كتب ميثاقه على ورقة تحمل شعار بفندق “أوليس” الذي احتضن القمّة، وليخرج على إثرها وزير الخارجية التونسي على الأثير لإعلان الخبر.

نويرة والجزائر على خطّ الرفض

كان المشروع برمّته محكوما عليه بالفشل، فالبيان جاء ارتجاليا مغمسا بأسلوب القذافي ونزعته “الفرجوية” لإقامة الوحدة على طريقته الثورية، ولم تسبقه أي مباحثات سياسية بين الجانبيْن، أو دراسات معمّقة تبحث التباينات بين النظاميْن السياسي والاقتصادي في ليبيا وتونس.

“لم يبد على بورقيبة أي علامة من علامات الانشغال، وظهر مرتاحا لأنه وجد نفسه على رأس بلد أكثر ثراء وأوسع مساحة، أما أنا فقد كنت مندهشا لأنّ التسرع والارتجال اللذيْن صاحبا هذه الولادة القيصرية كان فاقدًا للمعقولية بل للوعي”.

هكذا وصف مزالي موقفه المتحفّظ من المشروع، في نفس الوقت الذي كان الوزير الأول الهادي نويرة يقطع فيه زيارته الخارجية للعودة إلى تونس، ومواجهة المستجدّات.

في نقاشه مع بورقيبة تمسّك نويرة بعدم التنصيص على الاستفتاء في دستور 1958 ما يجعل تفعيل الاتفاق أمرا غير ممكن بشكل فوري، ما مكّنه من ربح مساحة من الوقت تمهيدا لإسقاط الاتفاق.

قوبل الإعلان عن قيام الجمهورية العربية الإسلامية بعاصفة غضب جزائري، ترجمه بيان خارجيتها الذي ندّد “بالوحدة المرتجلة المتسرعة المصطنعة”، ما دفع الرئيس التونسي لإيفاد مدير ديوانه للقاء هواري بومدين، حيث عرض عليه الانضمام إلى المشروع فكان ردّ بومدين “أن الجزائر لا تمتطي القطار وهو يسير”.

بعد أيام قليلة بدأ بورقيبة يستعيد توازنه الذهني وصفاء تفكيره، ليقرّر التراجع عن قراره برغم إلحاح القذافي ومطالباته بتنفيذ الاتفاق الملزم.

لم توفق محاولات العقيد الليبي في إبقاء مشروع الوحدة قائما، برغم لحاقه ببورقيبة إلى جنيف حيث كان يتلقّى العلاج، فكان اللقاء باردا وخيّمت عليه أجواء التوتّر لينسحب بعده القذافي عائدا إلى طرابلس حاملا نُذر عاصفة ستستمرّ تبعاتها طويلا بين البلدين.