صابر بن عامر
أُسدل الستار أمس السبت 20 أوت/أغسطس على الدورة الـ56 من مهرجان قرطاج الدولي، بحفل جماهيري أحيته النجمة المصرية شيرين أمام شبابيك مغلقة.
أهم الأخبار الآن:
مهرجان أتى بعد عامين من الغياب إثر تفشّي وباء كورونا، فاستبشر الشارع التونسي خيرا، وخاصة عشاق السمر الراقي على مدارج المسرح الأثري بقرطاج. ففي عودة أعرق المهرجانات الصيفية بتونس والعالم العربي إلى النشاط، إيذان بميلاد جديد للحياة في تونس الحياة. فماذا بقي منه؟
سؤال بدا بديهيا هذا العام على خلاف السنوات الماضية، لأمرين اثنين لا ثالث لهما، أوّلهما لأن المهرجان عاد إلى الحياة بعد عامين من الحجب الاضطراري، وثانيهما لأن قائد السفينة للنسخة الأخيرة المنتهية حديثا، هو كمال الفرجاني ذاك الموسيقيّ الحالم والصارم في آن واحد، فهل أتى المهرجان على إيقاع اسمه كامل مُكتمل اختيارا وتنظيما وذائقة فنية؟
حتى نكون إيجابيين، نقول إن أفضل ما يُحسب للهيئة التنظيمية لهذا العام، تلك البادرة غير المسبوقة لها بالشراكة مع مهرجان الحمامات الدولي وتحت إشراف وزارة الشؤون الثقافية التونسية، والمتمثّلة في تمكين 1200 طفل وشاب وشابة من العائلات الأشدّ عوزا في ولايات تونس الـ24 من ولوج مسرحيْ قرطاج والحمامات بالتناوب طبعا، وبحساب معلوم في كل حفل، زائد دخولهم الكواليس مع إمكانية الحديث بشكل مُباشر وحميميّ مع فنّانهم أو فنّانتهم ليلتها، فهذا ما يؤسّس فعليا إلى دمقرطة الثقافة.
بادرة تُذكر فتُشكر، تُؤسّس لجيل جديد من الشباب المتعطّش إلى الفن الراقي، إن كان راقيا فعلا؟
فأن تصنع مُشاهدا عارفا وناقدا، أشدّ أهمية أحيانا من الحفل والنجم ذاتهما. لكن أيّ حفل وأيّ نجم؟
هنا يجرّنا الحديث عن اختيارات مهرجان قرطاج الدولي في نسخته المنتهية أمس، فخلال 33 عرضا منقوص من عرض أُلغي فجأة ودون سابق إنذار، لا نعلم حتى كتابة هذه الأسطر أسباب إلغائه؟
ونعني هنا حفل تكريم الفنان الجزائري الراحل رابح درياسة الذي كان مُبرمجا لسهرة 17 أوت/أغسطس، لكن أُلغي في سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ مهرجان عريق أُسّس في العام 1964، ليكون قاطرة الثقافة في تونس.
لكن القاطرة أتت هذا العام مهشّمة بل هجينة من حيث الاختيارات التي بدت في غالبيتها تجارية صرفة، لا تقدّم ولا تؤخّر، بل تؤخّر بالذائقة القهقرى.
هذا على مستوى المضمون. أمّا شكلا، فما عاب قرطاج هذا العام سوء التنظيم الذي بلغ حدّ كواليسه ومؤتمراته الصحفية التي اختلط فيها الحابل بالـ”نابل”، بل وحتى الطريق السيارة “تونس-الحمامات”؟!
فخلنا أحيانا أننا في ملهى ليلي يتسابق فيه بعض المعجبين والمعجبات من “الأنستغرامور” و”الأنستاغراموز” الذين صدّقوا بضغطة زرّ على هواتفهم الذكيّة أنهم صحافيين وإعلاميين، على فنّانهم المفضّل وفنّانتهم المفضّلة لالتقاط صورة للذكرى وللتذكير بأنهم وأنّهنّ موجودين وموجودات هنا، عنوة وغصبا، في كواليس أعرق المهرجانات العربية وأشدّها بطشا بكل جسور لا يملك من الفن إلاّ أدناه ومن أخلاقيات مهنة المتاعب إلّا ما رحم ربّي… فيُلقى بهم في مزبلة التاريخ وقسوة الذاكرة.
نتذكّر جميعا ما حدث في أكثر من صيف سنوات 2004 و2005 و2006 حين أُستبيحت خشبة قرطاج من بعض أشباه الفنانين بفعل فاعل ومفعول به وبها أيضا، فاصطفّ كل صحافيي تونس وإعلامييها ونقادها بشكل جماعي لمُحاربة هذا الداء الذي نخر هيبة قرطاج، وكان النصر في النهاية للسلطة الرابعة على سلطة المال والدلال و”العربون” و”الهيشك بشك”.
عاد قرطاج إلى من يستحقّه، وعادت الأسماء الكبرى والرنانة إلى الصعود على خشبته المهيبة، فأتانا شارل أزنافور محمّلا بقديمه المتجدّد في سهرة صيفية لا تنسى، وعادت وردة الجزائرية تحضن “الأيام” وعشاق طربها، وجاء صباح فخري شاديا بأعذب القدود الحلبية وأرقاها، ومرّ ياني وصَحْبه فأشعل المدارج رقصا على إيقاعاته العالمية، وأنشد إيروس رامازوتي “قصة مهمة” على خشبة مهمة اسمها قرطاج صنعت مجد الفنانين ونجوميتهم العالمية والعربية في زمن الانتقاء الجيّد والبرمجة الموجّهة والمُمنهجة أيضا.
وكما لركح قرطاج هيبته، لكواليسه هيبتها أيضا، هكذا حدّثتني ذات حوار الفنانة اللبنانية “الماجدة” ماجدة الرومي.
فأعيدوا لكل مكوّنات المسرح الروماني ألقه، من الخشبة مرورا بالكواليس وصولا إلى المدارج التي فاق استيعابها في بعض الحفلات طاقتها، ما أنذر في أكثر من مرّة بكارثة مثيلة بحفل نجوم “ستار أكاديمي” بصفاقس عام 2007… لمن يذكر ويتبصّر.
قرطاج أماتنا وفخرنا يرحمكم الله… والتاريخ لا يرحم والمجد لا يقبل الأيادي المُرتعشة.
أضف تعليقا