وتونس لن تطأطِئ رأسها لهؤلاء أو أولئك.. من الردّ على المفوّض الأممي لحقوق الإنسان إلى رسائل للداخل التونسي
عبدالسلام الزبيدي
ظلّت رئاسة الجمهورية المؤسسة الوحيدة في الوظائف الثلاث بمصطلحات دستور جويلية 2022 التي تُصدر بلاغات أنشطتها ومواقف رئيس الجمهورية قيس سعيّد وبياناته بعد منتصف الليل. لكنّ حدثا ما استجدّ في الليلة الفاصلة بين الاثنين والثلاثاء 24 و25 فيفري 2024 جعل وزارة الشؤون الخارجية تسير على صراط الرئاسة في النشر خلال منتصف الليل أو ما يزيد عنه بقليل.
فنشر صفحة رئاسة الجمهورية على فيسبوك للبلاغات في مثل ذلك التوقيت غدا أمرأ مألوفا. وإذا أردنا إضفاء معقولية على ذلك الفعل الاتّصالي يمكننا التبرير له باعتباره جزءا من “إستراتيجية اتّصالية” قائمة على شخص لا يرضى بأن يكون غيره بديلا للمصادقة والتأشير، فضلا عن الحرص على تحجيم دور وسائل الإعلام إلى الحدود الدنيا وجعل وسائط الرئاسة ( فيسبوك خاصة) هي المصدر الأساسي للمعلومة. لكنّ تغيير وزارة الخارجية لما ألفته وما ألفناه منها يعكس حدثا جللا جعلها تلتحق بدرب الرئاسة في الاتّصال، أو ربّما قد يكون العكس أي أنّ الرئاسة هي التي ألحقت السياسة الاتّصالية للوزارة بها.
في إدارة الملف الاتّصالي
وتجد الفرضية الثانية المتمثلة في أنّ رئاسة الجمهورية التونسية هي التي دعت الخارجية للنشر في ذلك التوقيت معقوليتها وتبريرها في مسائل عدّة. أوّل هذه المبرّرات أو المسوّغات يتمثّل في أنّ رئيس الجمهورية هو من يرسم السياسات الخارجية للدولة وفق ما نص عليه دستور 2022 (الأمر نفسه بالنسبة إلى دستور 2014)، وإذا كان البيان المنشور متعلّقا بالردّ على المفوّض السامي لحقوق الإنسان باعتباره الممثّل السامي لهئية ترجع بالنظر إلى الأمم المتّحدة، فإنّ الموقف لا يمكن أن يصدر عن وزير الخارجية إلّا تفويضا من رئيس الجمهورية. وعليه فإنّ جوهر البيان، وليس البلاغ، يعكس موقف رئيس الجمهورية وذلك اعتمادا على منطوق الدستور ذاته.
أمّا المسوّغ الثاني لاعتبار البيان المنشور على صفحة الخارجية يعبّر عن السياسة الاتصالية لرئاسة الجمهورية ليس من ناحية توقيت النشر فقط وإنّما المضمون، فقوامه أنّ الكثير من المواقف المتعلّقة بالشأن الخارجي والتي تكتسي أهمية كبرى صدرت عن وزارة الخارجية، ويمكن أن نحصي عددا كبيرا منها، وتكفي جولة في صفحة الوزارة حتى نقف على هذا الأمر ولنا في رفض تونس المشاركة في دعم دعوى جنوب إفريقيا ضد الكيان الصهيوني بحجة أنّ المشاركة تُعتبر اعترافا ضمنيًّا به مثالا بارزا على ذلك.
ويمكن أن نضيف تأكيد رئيس الجمهورية على كلّ مساعديه بدءا برئيس الحكومة ومرورا بكل الوزراء، ضرورة الامتثال إلى مقتضيات دستور 2022 والقطع مع طريقة الحكم والتصرّف وفق الدستور السابق. والمقصود من هذا القول أنّ شخصًا واحدا له صلاحية ضبط السياسيات حفاظا على وحدة الدولة والتناغم بين مختلف المؤسسات.
وإذا أضفنا إلى ذلك أنّ البيان تضمّن العديد من الجمل والعبارات التي كثيرا ما يردّدها رئيس الجمهورية قيس سعيّد سواء في البلاغات أو في الفيديوهات المنشورة في الصفحة الرسمية للرئاسة، يمكننا التعرّف بكل يسر على من كتبه. ويمكن القول إنّ كاتبه، في الحدّ الأدنى، اتّخذ من أقوال رئيس الجمهورية ومقولاته بل وكذلك أسلوبه مرجعا له.
من حقّ القارئ أن يسأل عن أسباب اللجوء إلى ما يمكن تسميته بالأسلوب الملتوي، والحال أنّه كان من الممكن الاكتفاء بالقول إنّ البيان يعبّر عن موقف الجمهورية التونسية من البيان الصادر عن المفوّض السامي لحقوق الإنسان وانتهى الأمر، فوزارة الخارجية جزء من الحكومة ومواقفها ملزمة للدولة وممثّلة لها.
والردّ على السؤال له وجهان، الوجه الأوّل اتّصالي مداره الإشارة إلى كيفية إدارة الملف الاتصالي في تونس في العهد الحالي وهي طريقة تختلف جذريا عن زمن الانتقال الديمقراطي، وتلتقي من ناحية أخرى مع عهديْ ما بعد الاستقلال أي زمن الراحلين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي في نقاط عديدة يمكن تفصيلها في فرصة أخرى.
أمّا الوجه الثاني للردّ فطبيعته سياسية. فلو كان البيان صادرا من وزارة الخارجية تعبيرا عن موقف معيّن فإنّ دلالاته ستبقى في الأغلب الأعم منحصرة في القضية محور الخلاف، لكن عندما نجد معطيات شكلية ومضمونية تشير إلى ما يتجاوز الوزارة والوزير فإنّ القراءة وبالتالي الاستنتاجات تصبح أشمل وأعمّ. فهذا البيان، في تقديري، إعلان عن خارطة طريق سياسية وردّ على عديد الأفكار وربّما المبادرات التي تُغذّي النقاش في الساحة الوطنية.
رسائل سياسية للساحة الوطنية
وقبل أن نكشف عمّا اعتبرناه إعلانا عن خارطة طريق سياسية وتوضيحا لما يتمّ تداوله في الساحة السياسية التونسية، من المهم الإشارة إلى مضمون البيانيْن.
يُذكر أنّ المفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان قد دعت السلطات التونسية إلى وضع حدّ لما وصفتها بأنماط الاعتقال والاحتجاز التعسفي والسجن، التي يتعرّض لها العشرات من المدافعين عن حقوق الإنسان والمحامين والصحفيين والنشطاء والسياسيين، وفق نص بيانها.
ودعا مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان فولكر تورك السلطات التونسية إلى “وقف جميع أشكال اضطهاد المعارضين السياسيين”، وإلى احترام الحق في حرية الرأي والتعبير. وطالب أيضا بالإفراج الفوري لأسباب إنسانية عمّن هم في سن متقدمة وعن الذين يعانون من مشاكل صحية”. كما فصّل البيان في عديد القضايا وذكر عددا من المسجونين بأسمائهم.
ووفقا لمفوضية حقوق الإنسان، من المقرر أن يحاكم أكثر من 40 شخصا، بداية مارس، من بينهم معارضون من مختلف الانتماءات السياسية، أمام المحكمة الابتدائية في تونس العاصمة. وهم ينتمون إلى مجموعة وُجِّهَت إليها تهم “التآمر على الدولة” وأخرى مرتبطة بالإرهاب. وما يزال سبعة منهم على الأقل رهن الاحتجاز قبل المحاكمة منذ فيفري 2023، والبعض منهم موجودون خارج البلاد، وسيُحاكمون غيابيا.
أمّا البيان التونسي فقد تمّ تصديره بالتعبير عن “بالغ الاستغراب” الذي تلقّت به تونس ما جاء في البيان. والملاحظ أنّ الموقف بقي في مستوى الاستغراب ولم يرتق إلى استعمال عبارات أكثر شدّة على غرار الاستنكار وأكثر من ذلك التنديد. كما اكتفى بيان تونس بوصف مُصدِر البيان الأوّل بأنّه المفوّض السامي لحقوق الإنسان ولم ينسبه إلى منظمة الأمم المتحدّة، واعتبر مضمونه مغالطات.
وورد في بيان تونس أنّه “يمكن للدولة التونسية أن تُندّد بممارسات تضعها في خانة اعتداءات صارخة على حقوق الإنسان، ولكنّها نأت بنفسها عن ذلك لرفضها التدخّل في شؤون الغير بل إنّ تونس يمكن في هذا الإطار أن تُعطي دروسا لمن يعتقد أنّه في موقع يُتيح توجيه بيانات أو دروس”.
واعتبر أنّ “الذين تمت إحالتهم على القضاء، فذلك بتقدير مستقلّ من القضاة، ولا دخل لأيّ جهة غير قضائية في ما يتّخذه القضاة من إجراءات”، وأنّ “إحالة المتّهمين موضوع البيان تمّت من أجل جرائم حقّ عامّ لا علاقة لها بنشاطهم الحزبي والسياسي أو الإعلامي أو بممارسة حريّة الرأي والتعبير”.
وأضاف البيان: “وتتساءل تونس كيف كان سيتصرّف القضاء حين يُصرّح أحد أنّه سيشعل حربا أهلية ورتّب بالفعل لإشعالها، وماذا كان سيفعل حين يقول آخر أنّه أعدّ مائة ألف انتحاريّ وهم مستعدّون للقيام بعمليات إرهابية”.
وختمت تونس بيانها بالقول: “لعلّ التهم الموجهة لتونس اليوم هو أنّ شعبها أراد أن يعيش حرّا في وطن كامل الاستقلال والسيادة، ولو طأطأ رأسه، ولن يفعل أبدا، لتهاطلت عليه من هذه الجهات التي تُعرب عن قلقها شهادات في حسن السيرة والسلوك”.
وبعد أن ذكرنا أهم ما في البيان الأممي وفي الردّ، يمكن القول إنّ حديث التونسيين عن مصالحة وطنية وحوار وطني لا معنى له. فالخطاب الرسمي واضح ولا يحتاج التفسير ولا التأويل. فلا وجود لمساجين سياسيين ولا مساجين رأي في تونس، والقضاء التونسي وطني ومستقلّ، وكلّ الاتهامات سببها أنّ الشعب التونسي أراد أن يعيش حرّا في وطن كامل الاستقلال والسيادة. وتونس لن تطأطِئ رأسها لهؤلاء أو أولئك.. ذاك هو الردّ على الحوار وتلك هي مقدّمات المحاكمة في “قضية التآمر” وضوابطها.. انتهى الوهم.