103 سنوات تمضي على ذكرى وعد بلفور المشؤوم، تصريح جاء ممهورًا بتواطؤ “صاحب الجلالة البريطاني”. تعبيرًا عن عطفه على الأماني الصهيونية بإقامة وطن قومي لليهود على أرض فلسطين.
تحل الذكرى هذا العام على وقع سقوط شعار التضامن العربي بشكل دراماتيكي، واتساع رقعة التشرذم والانقسام، بعد أن انفضت كثير من الأنظمة العربية من حول فلسطين، وركب بعضها قطار التطبيع تحت شعار “السلام الإبراهيمي”.
في غضون شهرين، انخرطت الإمارات والبحرين وكذلك السودان دفعة واحدة في مشروع صفقة القرن الأمريكي، معلنة دخولها عصر التطبيع العلني، بعد حقبة من الاتصالات السرية مع الإسرائيليين.ليست مصادفة
قد يبدو الأمر بمثابة نبوءة أكثر من مجرد مصادفة تاريخية، إذا ما علمنا أن الدول الثلاث كانت خاضعة للنفوذ البريطاني على المستويين العسكري والسياسي، تستكمل بعد ما يزيد عن قرن، مشروع عرابتها السياسية بتكريس الكيان الصهيوني أمرًا واقعًا على المستوى الرسمي العربي.
طوال العقود الماضية كانت ذكرى الثاني من نوفمبر تاريخ إعلان وعد بلفور منطلقًا للتنديد السياسي وإإدانة التآمر والتواطؤ البريطاني تجاه القضية الفلسطينية، ودوره المباشر في تسهيل مشاريع الاستيطان الصهيوني، والتي مهدت لإعلان قيام كيان الاحتلال عام 1948.
تحول الوعد إلى الشماعة الكبرى للمظلمة الفلسطينية، استنادًا إلى الدور الذي اضطلع به الانتداب البريطاني بفلسطين، في تسهيل الهجرة اليهودية وتسليحها، وتحويلها إلى كيان سياسي، لكنه حجب في الآن ذاته حقائق أخرى عن دور فرنسا ودسائسها الاستعمارية التي أسهمت بدورها في تجسيد الأحلام الصهيونية قبل بلفور.
قد تكون مفاجأة للبعض، أن وعد بلفور هو بمثابة الشجرة التي تحجب الأكمة، وتغطي على الوعود التي قطعتها باريس للحركة الصهيونية، ممثلة في ما يعرف “بوعد كامبو”، والذي صدر قبل خمسة أشهر من التصريح البريطاني.
لم يأتِ الوعد الفرنسي من فراغ، أو محاولة لمنافسة لندن على مساعيها لخدمة المشروع الصهيوني، بقدر ما جاء منسجمًا مع مخططات الحليف البريطاني الخاصة بمستقبل الشرق الأوسط والمنطقة، بعيد الحرب العالمية الأولى.قصة وعد
ففي جوان 1917 بعث جول كامبو سكرتير وزارة الخارجية الفرنسية، بتصريح الرسمي إلى ناحوم سكولوف ممثل الحركة الصهيونية تضمن الصيغة التالية:
“سيكون من العدل والإنصاف أن نساهم، من خلال الدول المتحالفة، في إحياء الجنسية اليهودية على أرضها الخاصة بها، حيث الشعب الإسرائيلي كان قد طرد منذ قرون عديدة، إن الحكومة الفرنسية التي اشتركت في الحرب الحاضرة للدفاع عن الشعوب التي تعرضت للاعتداء الظالم، لا يمكنها إلا أن تبرهن على تعاطفها مع قضيتكم التي يرتبط انتصارها بانتصار الحلفاء”.
يثبت التصريح تبني السياسة الفرنسية المطلق لحلم الدولة الصهيونية، وربط تنفيذه بنهاية الحرب العالمية الأولى، وانتصار الحلفاء بصفتهم عرابي المشروع، وضامني تنفيذه عبر اتفاقية سايكس بيكو المبرمة بين الحليفين المنتصرين.
الوعد الفرنسي المغيب يطرح بشدة اليوم قضية إعادة كتابة التاريخ، في ظل تقاطع الفكرة الصهيونية مع الأجندات الاستعمارية الفرنسية.
ولعل استحضار “وعد كامبو” الذي لم يقل شؤمًا عن ربيبه البريطاني، يحرك تساؤلات عن موقف العرب حاضرًا تجاه فرنسا، فيما لو انقلبت الصورة في الماضي وجاء تصريح بلفور سابقا لكامبو، فكيف لماكرون المكبل بإرث من المؤامرات السياسية وتاريخ فرنسا في المستعمرات أن يبرر سلامة نواياه تجاه الإسلام، بعد أن تسببت تصريحاته الأخيرة في انفلات غضب بعض المسلمين من عقال الصمت إلى رقعة المصارحة بل والمقاطعة.