رأي

“قبض اليدين” ….طوعا أو كرهًا

فوزي الصدقاوي 

غيّبت إجراءات “الرئيس” الاستثنائية خلال الأشهر العشرة الماضية، تجربة التنوير التونسية وضربت عرض الحائط، مسار بناء الدولة الحديثة والعصرية، فانتكس ”الاستثناء” على عقبيه وارتدت ”الحركة التصحيحية” عن عقل عهد الأمان 1857 وعن روح دستور سنة 1861 للدولة التونسية (1)، وعن أنوار مدرسة الإصلاح التونسية، وما زُعم أنّه “تصحيحٌ”، كانت الأشهر العشرة كافية لتكشف أنّ الأمر، لم يكن إلا رِدة للعقل السياسي وقطيعة معرفية مع تاريخ التونسيين وأعراف الدولة الدبلوماسية وتقاليد مؤسساتها الحديثة، المستنيرة.

جاء في الفصل الأول من دستور 1861 أنّه :  على الملك عند ولايته أن يحلف بالله وعهده وميثاقه ألا يخالف شيئا من قواعد عهد الأمان ولا شيئا من القوانين الناشئة منه وأن يحفظ حدود المملكة وتكون يمينه جهرا بمحضر أهل الحل والعقد وهم أهل المجلس الأكبر وأهل المجلس الشرعي وبعد اليمين يقبل البيعة ولا يتم له أمر دون هذه اليمين وإن خالف القانون بعد الولاية عمدا فعقدة بيعته منحلة (2).

لا يستوي النصّ التأسيسي للدولة إلا بإقرار الفصل بين السلطات وتوازنها وضمان الحقوق، ولا يبلغ نصّ الدستور نضجه ورشده إلا بتقييد الحاكم أي بـ”وضع يديه إلى جنبيه” (بتعبير ابن أبي ضياف، أي تقييد صلاحيّات الحاكم ومجال اختصاصه) ذلك أنّه لأجل مصلحة الشعب والدولة جُعلت سلطة التشريع والرقابة بيد مؤسسات (الحلّ والعقد).

…ولما أتممنا شرح القاعدة الأولى وهي قاعدة كل القواعد وقرأنا على الباي في ذلك المجلس [….] بدرت من بعضهم بادرة يغفر الله له فيها وهي أن قال:” أيّ شيء بقي لسيدنا ؟” ….ووافقه على ذلك بعض المتــزّلفين والباي ساكتٌ، لأنّه قبض يديه إلى جنبيه لأجل نفع الرعية… فوجمنا لهذه البادرة الباردة، فتكلم الوزير خير الدين، وكان أثبت القوم جَنَانًا، وإن شئتَ قلت وأقواهم إيمانا، وقال له : ” نعم، يبقى لسيدنا، ما بقي للسلطان عبد الحميد، وما بقي لسلطان فرنسا وسلطانة بريطانيا وغيرهم من السلاطين بالقانون” (3).

لقد أجمع التونسيون منذ ما يزيد عن القرن ونصف القرن، على أنّه دون قواعد حاكمة وقيود ضابطة وآليات ناجزة، لن يسلم تأويل النصّ التأسيسي من خرق محتمل للنصّ، وإن سلمت النوايا، وقد أدى الخرق منذ 25 جويلية، خطوة بعد خطوة إلى فتق رتق الدولة، وبدا ”التصحيح” هزّ وسبطٌ للمؤسسات، لذلك كانت المسؤوليات لا تُسند إلا بقيود، ولا تطلق الاختصاصات إلا بحدود، ولا تُفصل فيها السلطات إلا لتوازن القوة، ومنع الحاكم من زيغ أو جَـــــوْرٍ، بوضع تصرفاته تحت رقابة المؤسسات، حماية للدولة الضامنة ” l’Etat garant ” التي ضمنت للناس حقوقهم وأمنهم ومصالحهم، وقد جاء الفصل الثالث من دستور 1861، لينصّ على أن 🙁 الملك مسؤول في تصرفاته للمجلس الأكبر إن خالف القانون.)(4).

كان ”الرئيس” يصرّ على أنّ إجراءاته الاستثنائية لم تخرج عن النصّ، وأنّه يتحرك حسب القانون ويؤوّل بحجة ما أوكل إليه الدستور في غياب المحكمة الدستورية، وهوما يزال يتدرج في التحرّك من النصّ إلى خرق النصّ، بمباركة النخبة المخزنية التي ”أجازت له الخروج عن النص بما يسمح له النصّ” (5)،  ثم هو أوكل إلى نفسه الحق الحصري في  تقدير ما يلائم دولة التونسيين وما لا يلائمها.  وعزم على أن يأتي بـــ ” النصّ مقابل النصّ” (6) من أجل جمهورية جديدة.

 النص والمعنى

لقد كانت خصومات الفكر العربي الإسلامي وما تزال تاريخا لمعارك التأويل والتنازع بشأن النص والمعنى، ما يؤوّلوما لا يؤوّل، وقبل ذلك بشأن من يحق له التأويل، وهي معارك استنبطت أفكارا وقواعد ومناهج  وآليات أُنشأت بمقتضاها نظريات ذات مضمون عميق، يتناظر فيها الفكر ويستنير بها النظر ويُشحذ في خصوماتها العقل.

فالتأويل في سياقات تلك التجربة كان دائما لحظة تمنح التفكير ديناميكية خلّاقة ومجددة للعقل والاجتماع السياسي، لكونها متحيّزة في حدود الإدراك، ومسالك الفهم ونطاق الدلالة وجدلية المجال وتاريخية الأفكار وثقافة العُرف وشروط الوقت، وممكنات الواقع.
 وهي أيضا لحظة في مستوى آخر تحرص على استيعاب الخصومات ضمن مؤسسات مرجعية يدار فيها الخلاف ويــُصنع فيها العقد والحل بالإجماع فإن لم يتحقق الإجماع فمحمول على الجميع حسم الخلاف باستنفاد الجهد وشحذ العقل والمناظرة من أجل إنشاء معنىً يتوافق عليه الجميع، وتُــقَارَب به المصلحة لعامة الناس وخاصتهم.

مازالت ذاكرة الماضي نابضة بالحياة، تراهن من أقبيتها المعتمة على استرداد حصونها في دولة الاستبداد. وبدلا منأن تَحمل النخبة ”المخزنية” الرئيس على أن يقبض يديه إلى جنبيه لأجل نفع التونسيين، والكفّ عن وضع السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية جميعها في قبضته، وعوضا عن دعوة المؤسسات الديمقراطية إلى استئناف نشاطها، انخرطت هي في مشروعه وظلت تفتي له بجواز الانفراد بالدولة، وهي تعلم، أنّه الطريق الأسرع للهلاك والفساد.
 غير أن التونسيين لن تُعجزهم الحيلة بمنظماتهم المدنية، وبمؤسسات الدولة الصلبة أن يدرؤوا مآلات خراب العمران الوشيك، ليقوموا قومة رجل واحد، يحملون ”الرئيس” على أن يقبض يديه إلى جنبيه طوعاً وإلا فــــكرهًا، بسحب ”الوكالة”، أليس هو  نفسه من كان ينصح بهذه الآلية؟

**************************************
هوامش:
1 – راجع أتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان لأحمد بن أبي الضياف في الجزء الرابع منه من ص 241 إلى ص 249.

2- الفصل الأول والثاني من دستور 1861..

3 – بن أبي الضياف، أحمد : إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان،الجزء الرابع، تحقيق لجنة بوزارة الثقافة للجمهورية التونسية، دار العربية للكتاب، تونس، ص 249.

4 – الفصل الأول والثاني من دستور 1861..

5- هذا الموقف أفصح عنه بوضوح وبدون تردد أستاذ القانون العام،  الزكراوي.

6 – تعبير جاء به ”الرئيس” في خطابه، وقد علّق سياسيون وصحافيون بخصوصه، بأنّه (غامض.. بدون معنى) لكونه بيان من دون تبيين .