في يوم الصحافة العالمي.. استهداف إعلاميي غزة يفضح سردية الغرب

وجدي بن مسعود

لماذا سقطت حرية الإعلام وحصانة الصحفيين في غزة؟ وكيف كشفت ارتهان المعايير الحقوقية الغربية للكيان؟ 

لم يشهد “العالم الحر” منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، “انحيازا سافرا” في المواقف الغربية، مثلما ما تشهده يوميات الإبادة الجماعية على قطاع غزة، والذي بلغ مستويات من الصفاقة والتواطؤ حد تبرير استهداف الصحفيين والإعلاميين في قطاع غزة.

على مدار أكثر من سنة ونصف من الإبادة، بلغ عدد الصحفيين الشهداء في غزة 210، وفق الإحصائيات والأرقام التي أوردها الإعلام الحكومي بالقطاع.

يصف تقرير مجلة “تايم” الأمريكية، العدوان على غزة بكونه “النزاع الأكثر دموية بالنسبة إلى الصحفيين، منذ بدأ تسجيل هذه الحالات سنة 1992″، والمتعلقة باستهداف الصحفيين في مناطق الصراعات.

أما المنظمات الحقوقية والصحفية الدولية، فتجمع في كل تقاريرها، على أنّ الصحفيين الفلسطينيين في غزة استهدفوا بشكل متعمد أثناء تأدية واجبهم المهني، رغم ارتدائهم سترات الصحافة ووجودهم في مواقع أو مبان أو مركبات وضعت عليها علامات إرشادية واضحة، بأنها تابعة لصحفيين ووسائل إعلام.

تنديد خجول 

منذ الـ7 من أكتوبر 2023، ومع تصاعد حصيلة جرائم الاحتلال ضد الصحفيين والمراسلين الغزيين، تصاعدت دعوات محاسبة مسؤولي الكيان المحتل، وخاصة القيادات العسكرية، عن هذه الانتهاكات التي تعدّ جرائم الحرب، وسط تكرار دعوات تحييد الصحفيين وحمايتهم.

على استحياء، بدأت التقارير الصحفية الغربية، في الآونة الأخيرة في توصيف الحصيلة غير المسبوقة للصحفيين الذين ارتقوا في غزة، بكونها “صادمة”، في محاولة للتغطية على عورات تجاهلها وسكوتها على استهداف الصحفيين الغزيين، طوال الأشهر الأولى من العدوان، والتعتيم عليها، من خلال عدم التطرق إليها.

الإعلام الغربي الذي طالما قدّم نفسه مرجعا في حرية الإعلام، و”حبرا أعظم” لمحراب الحقيقة وقيم الصحافة، ومبادئها، والمنافح عن حصانة الصحفيين، خلال التغطيات على جبهات الحرب، أسقطت الإبادة الجماعية عنه قناع القيم الزائف والشعارات الطنانة، وكشفت سقطاته الأخلاقية والمهنية، التي لم تنحصر عند التنكّر لمبادئ الزمالة والتضامن المهني التي نص عليها ميثاق الشرف الصحفي، بل تمادت إلى التسويق لبروباغندا الاحتلال الإعلامية، والتبرير لاستهداف من يفترض أنهم “زملاء مهنة” و”رفاق دروب المتاعب”.

سياسة ممنهجة لطمس الحقيقة 

 مساعي قوات الاحتلال لطمس “عدسات الحقيقة”، وإسكات الأصوات التي توثق جرائمه، ومنع نشرها، سواء في غزة، أو في كامل الأراضي الفلسطينية المحتلة، ترتكز بشكل معلن على غطاء ودعم سياسي صريح من قبل حكومات الكيان المحتل، وهو ما يتجلى في تصريح وزير الأمن القومي المتطرف إيتمار بن غفير عقب استهداف مراسلة الجزيرة الشهيدة شيرين أبو عاقلة، بأنه “يؤيد إطلاق النار على الصحفيين الذين يعيقون عمل الجنود”، على حدّ زعمه.

ممارسات وانتهاكات مارقة عن كل القوانين والمواثيق الدولية، ليست مستجدة على سياسات الكيان المحتل، والذي تعود على أن يضرب بالشرعية الدولية والمعاهدات والقوانين، وضغوط المنظمات الحقوقية والصحفية عرض الحائط، في المقابل فإنّ سلوكات “غض الطرف” الضمنية التي دأب الغرب على اعتمادها تجاه تجاوزات الكيان، تحولت منذ السابع من أكتوبر إلى تواطؤ غير مسبوق بملامح سافرة حد الاستفزاز.

سردية “غربية كاذبة”، منافقة، مختلة الموازين معوجة القيم، تكيل بأكثر من مكيال، وتطرح تساؤلات عن حقيقتها وخلفياتها، وما إذا كانت قيمها وشعاراتها المرتبطة بحرية الصحافة وحصانة الإعلاميين والمراسلين الميدانيين، محصورة بالجغرافيا، وحكرا على الرجل الغربي الأبيض، أما عن الصحفيين الفلسطينيين، “فلا بواكي لهم”.

مبادئ مشروطة 

في تحليل قدٍمه لبوابة تونس في هذا الإطار، يرى الباحث والأكاديمي الفلسطيني عابد الزريعي، أنّ مشهد استهداف الإعلاميين الفلسطينيين، بات متكررا في كل الحروب التي شنت على غزة، ضمن إستراتيجية الاحتلال للتعتيم على كل الوسائط التي تساهم في نقل الحقيقة، والتي تبلغ حد تكميم أصوات مراسلي وسائل الإعلام الغربية، واستهداف مقراتهم، بحيث تصبح الإدارة الإعلامية العسكرية للاحتلال مسيطرة على إدارة المعلومات التي تخرج من القطاع.

يشار إلى أنّ قوات الاحتلال قصفت أكثر من 50 مقرا إعلاميا داخل قطاع غزة، من بينها مقرات مؤسسات ووكالات غربية، من بينها الذي يضم مكاتب وكالة رويترز، وفرانس برس.

وحسب الدكتور الزريعي، فإن موقف الغرب من معادلة العدوان على غزة، تكشف عن نزعته الإمبريالية الاستعمارية، ما يجعل من انتقاد مواقفه المتخاذلة من جرائم الاحتلال نوعا من الخطاب الجامد.

وفي قراءته لمواقف وسائل الإعلام الغربية المتماهية مع جرائم الاحتلال، دون إبداء أبسط تضامن مع الصحفيين الغزيين، يشير عابد الزريعي إلى أنّ التدقيق في أطروحات هذه المؤسسات، خاصة المرتبطة بحرية الإعلام والديمقراطية، يكشف أنها تطرح هذه المبادئ بطريقة مشروطة في عمقها، أي المتوافقة مع المصالح العليا للقوى التي تتبع لها هذه المؤسسات.

وتابع: “في اللحظة التي تخرج فيها هذه المبادئ عن خارج إطار هذه المشروطية، ستنظر إليها باعتبارها أصبحت في الموقع المضاد والمهدد للمصالحها العليا لمصالح داعميها”.

وأردف: “إذا كنا ننتمي إلى حريتنا الإنسانية التي ثبت أنها أكثر اتساعا، وأكثر ديمقراطية في عمقها علينا أن نمارس دورنا في الدفاع عنها بمزيد من الاستمرية والضغوط، خاصة التضامن مع شعوب العالم الحرة والمنظمات والهيئات الدولية”.

كما يؤكّد المتحدث أنّ المسألة ترتبط بالوعي بالموقع الحقيقي لهذه المؤسسات الإعلامية الغربية، مضيفا: “دون الوعي بموقعها وتبعيتها المالية والفكرية والإستراتيجية، يصبح الأمر نوعا من التمنيات ونبقى ندور في حلقة مفرغة من التساؤلات”.

ويشدّد الدكتور عباد الزريعي في هذا الإطار، على ضرورة صياغة رؤيتنا الخاصة عن مواقفنا، وأن نخاطب هذه المؤسسات والقوى عبر عشرات الآليات المتوفرة.

وأردف: “يمكن أن يكون ذلك من خلال الأجهزة والمؤسسات الصحفية التي بأيدينا، أو من خلال المخاطبة الجماهيرية”، على حدّ تعبيره.

ويطرح المتحدث نموذجا لهذه الأسلوب في التعبئة الجماهيرية، عبر تحرك مفترض للصحفيين التونسيين بشارع بورقيبة مرتدين الخوذات والدروع الصحفية ويقومون في الأثناء بجمع توقيع 100 ألف من المواطنين، فمن شأن هذه المبادرة أن تعطي مصداقية وقوة دفع لمثل هذه العرائض، وبالتالي لا يمكن لوسائل الإعلام الغربية تجاهلها.

ويستطرد: “صحيح أنّ مثل هذه المبادرات ليست بسيطة، لكنها جزء من المعركة الإعلامية التي تدور”.

توظيف معاداة السامية 

استطرد: “لا بد أن نفهم أنّ العالم ليس طيبا على شاكلة أسطورة سنديلا كما حاولوا أن يوهمونا، بل لعله أحيانا وحش كاسر يرتدي قناعها، وهذه حقيقة علينا أن نعيها في قراءتنا للواقع”.

وفي تحليله لطبيعة الخطاب الإعلامي الغربي المنحاز حول استهداف الصحفيين الفلسطينيين، يلفت الدكتور الزريعي، إلى أنّ الاحتلال ومنذ أن بدأ تحويل قضية المحرقة النازية “الهولكوست”، إلى اتهامات ومزاعم بمعاداة السامية، أصبح الحديث عن كل ما يمس الكيان المحتل وأفعاله مجرما بشكل متنام، ودون أن يقابل ذلك بتحرك من قبل الفعاليات الإعلامية والأكاديمية العربية، أو خوض اشتباك فكري أو نضالي لكشف هذا التزيف وفضحه والرد عليه.

ويضيف أنّ هذا الأسلوب “أصبح من أدوات السيطرة على مفاصل المؤسسات الإعلامية في الساحة الأوروبية والغربية، من قبل اللوبي الصهيوني ومن يدعمه”.

ويستشهد المتحدث بواقعة استشهاد الصحفي أحمد منصور، إثر قصف الاحتلال خياما كانت تؤوي عددا من الصحفيين في خان يونس، قائلا: “لو اكتفى الاحتلال باستهداف تلك الخيام بالحجر لانهارت، ولكنه تعمّد قصفها بقنابل حارقة ليحرقها بمن فيها، و العالم شاهد الصحفي الشهيد وهو يتفحّم أمام أعينهم، ولكن الوكالات الصحفية الغربية لم تتحدث بمجملها عن تلك الجريمة”.

ويخلص الدكتور عابد الزريعي إلى أنّ “القضية لا تتعلق بالإعلام وحسب، بل تكرس تمحور الإعلام الغربي في موقع متماه مع موقف الكيان الصهيوني”.

أضف تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *