ثقافة

في مشهد واحد …”الحرقة” 2 يكشف عن عنصرية بعض التونسيين

صابر بن عامر

في الضفة الشمالية من المتوسّط، أبرز مسلسل “حرقة” للأسعد الوسلاتي في جزئه الأول وصولا إلى حلقاته الخمس الأولى في الجزء الثاني منه الذي تعرضه “الوطنية الأولى” (عمومية) في الموسم الرمضاني الحالي، حجم العنصرية والازدراء الذي يتعرّض له التونسيون والمغاربيون، وخاصة ذوي البشرة السوداء المُهاجرون بشكل غير نظامي من إفريقيا جنوب الصحراء إلى الأراضي الإيطالية، مُستعرضا مآسيهم وآلامهم على الأرض وقبلها في عرض البحر، وهم يركبون زوارق الموت نحو المجهول… أمر بات معلوما، لكنه مذموم بكل الأعراف الإنسانية السماوية منها والوضعية، ومع ذلك لا شيء تغيّر.

الجديد الصادم في كلّ ما تقدّم، تحديدا في الحلقة الخامسة من المسلسل الذي حمل هذا العام عنوان “حرقة… الضفة الأخرى” أن للعنصرية تُجاه مُهاجري إفريقيا جنوب الصحراء إلى تونس كنقطة عبور من جنوب المتوسّط إلى شماله وجها آخر خفيّا ومسكوتا عنه، تطرّق له بوضوح ودون مُواربة أو مُراوغة كاتب السيناريو والحوار عماد الدين الحكيم في مشهد أقلّ ما يُمكن أن يُقال عنه أنه “مُقرف” و”مُقزّز” و”غير مُشرّف” لتونس، أو “إفريقية » (اسم تونس قديما) التي منحت اسمها قديما للقارة السمراء.

أصل الحكاية

في سيارة نقل عمومي، تصعد المُهاجرة، من كوت ديفوار، كايلا لتجلس منفردة لتجلس في أحد الكراسي الشاغرة، منتظرة انطلاقها إلى وجهتها…

وراءها تجلس سيدتان تونسيتان، إحداهنّ شقراء، تقول إلى صديقتها: “ما أكثرهم، ملئوا البلد، واحتكروا حتى المهن… غلاّو علينا الخبز”.

لتقول لها رفيقتها: “اصمتي، عيب قد تسمعك”، فتُضيف: “هي لا تفهم لغتنا، وإن يكن فلتسمع”، ثمّ تُخرج من حقيبتها قارورة عطر، وتبخّ الفضاء بشذاها، مُردفة في ازدراء: “ماخيب ريحتهم، (ما أبشع رائحتهم)… كم أكرههم”.

حوار من جانب واحد، أو لنقل ثنائي بين صديقتين، شعرت بوقعه كايلا على نفسها، ربما من خلال نبرات الصوت المُزدرية لوجودها بينهنّ أصلا، فقابلته بابتسامة عريضة… وانتهى المشهد، لكنه لم ينته قطعا.

مشهد/ مفتاح فتح الباب على مصراعيه لاستحضار جانب مخفيّ من عنصرية التونسيين تُجاه مهاجري إفريقيا جنوب الصحراء، الذين ارتحلوا إلى البلد، قسرا، لا للاستقرار، إلاّ بعضا من طلابها، بل كمنطقة عبور إلى الضفة الأخرى من المتوسط، فيُعاملون من “بعضنا” بفوقية وعنصرية مقيتة.

الهجرة من أفريقيا إلى أفريقيا

وتقول الأرقام الرسمية للتعداد العام للسكان والسكنى 2014 أن عدد مواطني أفريقيا جنوب الصحراء، في تونس يبلغ 7524 شخصا، غالبيتهم من نيجيريا والكوت ديفوار والكاميرون ومالي والسنغال، وهو رقم غير دقيق، لأنه لا يأخذ في الاعتبار إلاّ الذين يحملون بطاقة إقامة قانونية صادرة عن وزارة الداخلية، ويُغفل الآلاف الذين يقيمون في تونس بطريقة غير قانونية نظرا لصعوبة تسوية أوضاعهم.

في المقابل، تقول تقارير جمعية “الإيفواريين في تونس” أن عددهم يقارب بنحو العشرين ألفا، 60 في المائة منهم من الكوت ديفوار، والبقية ينحدرون من أفريقيا جنوب الصحراء، يتنقلون في مجموعات، ويعملون في الفلاحة والبناء والمقاهي والمطاعم ومعينات منزليات…

هم “المهاجرون الأفارقة”، منهم من اختار الإقامة في تونس، وينتظر بصيص أمل، لإعادة التوطين في إحدى الدول الأوروبية، ومنهم من يتحيّن الفرصة للهجرة بطريقة سرية إلى السواحل الأوروبية.

بين القانون والممارسة

بين هذا وذاك وما بينهما الطلبة الذين آثروا مواصلة تعليمهم العالي بتونس، معظمهم في جامعات خاصة، عان هؤلاء ولا زالوا يُعانون من تمييز عنصري محلي “مُخجل”، رغم مصادقة مجلس نواب الشعب التونسي في 23 أكتوبر/ تشرين عام 2018 على قانون يجرّم جميع أشكال التمييز العنصري.

قانون يلزم الدولة بـ”نشر ثقافة حقوق الإنسان والمساواة والتسامح وقبول الآخر بين مختلف مكوّنات المجتمع” وبـ”وضع برامج متكاملة للتحسيس والتوعية والتكوين لمناهضة جميع أشكال التمييز العنصري في كافة الهياكل والمؤسسات العمومية والخاصة وتراقب تنفيذها”.

كما ينصّ القانون على معاقبة كل من “يرتكب فعلا أو يصدر عنه قول يتضمّن تمييزا عنصريا بقصد الاحتقار أو النيل من الكرامة”، بالسجن من شهر إلى عام واحد، وبخطية (غرامة) من 500 إلى ألف دينار (ما يقرب 176 إلى 352 دولار) والتي قد تتضاعف في بعض الحالات (إذا كان الضحية طفلا أو من ذوي الإعاقة، أو كان لمرتكب الفعل سلطة قانونية أو فعلية عليه) يقدّرها القضاة المختصّين.

ويُضاف إلى كل ما سبق حزمة عقوبات جنائية على الأفعال الآتية: التحريض على الكراهية والعنف والتفرقة والفصل والعزل أو التهديد بذلك ضد كل شخص أو مجموعة أشخاص أساسه التمييز العنصري، نشر الأفكار القائمة على التمييز العنصري أو التفوّق العنصري أو الكراهية العنصرية بأي وسيلة من الوسائل، الإشادة بممارسات التمييز العنصري عبر أي وسيلة من الوسائل، تكوين مجموعة أو تنظيم يؤيّد بصفة واضحة ومتكررة التمييز العنصري أو الانتماء إليه أو المشاركة فيه ودعم الأنشطة أو الجمعيات أو التنظيمات ذات الطابع العنصري أو تمويلها.

وهذا القانون يشمل التونسيين من ذوي البشرة السوداء أو الوافدين من إفريقيا جنوب الصحراء الذين يرى فيهم بعض التونسيين كالمتحدّثة في “حرقة” أنهم “غلّاو على التوانسة الخبز” بقبولهم الأعمال “المهينة” في نظرهم، كالفلاحة والبناء والعمل كنادل أو نادلة في المقاهي والمطاعم ومعينات منزليات، وكأن التونسيون والتونسيات يرتضون هذه المهن؟.

وفي ديسمبر/ كانون الأول من العام 2020 بدأ الاتحاد العام التونسي للشغل مسار الاحتواء النقابي للعمالة الإفريقية في تونس، من أجل ضمان حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية، بعد رصد انتهاكات لها من قبل مؤجرين يستغلون هشاشة وضعهم لتشغيلهم بأجور ضعيفة.

وفرض تزايد العمالة الإفريقية في تونس (خاصة بعد ثورة 14 جانفي/ يناير 2011 بتونس، وثورة 17 فيفري/ فبراير ببلد الجوار ليبيا) وتحوّلات سوق تشغيل الأجانب التأطير النقابي، لهذا الصنف من الأجراء ممّن يعملون في قطاعات اقتصادية مهمة، ولاسيما منها القطاع الخدماتي من دون أدنى ضمانات قانونية، الأمر الذي حفّز المركزية النقابية للبدء في إجراءات احتواء للعمالة الإفريقية وحمايتهم من الاستغلال.

ويخضع كل الأجانب الوافدين على تونس إلى قانون يعود إلى سنة 1968 المتعلق بحالة الأجانب في البلاد، ويعرف هذا القانون بمن تعتبره الدولة مواطنا أجنبيا وبشروط دخول البلاد التونسية والموانع التي تقتضي طرد الأجانب والعقوبات المقرّرة للتونسيين عند إيوائهم للأجانب بشكل غير قانوني.

لكن لبعض سكّان “إفريقية”، وهو الاسم القديم لشمال تونس وجزء من الجزائر، ومنه أخذت القارة السمراء اسمها، رأي آخر يدحض ما جاء في نص الدستور وما أقّره اتحاد الشغل من حفظ لكرامة هؤلاء الوافدين المُضطهدين في بلدانهم وفي بلد العبور تونس، عبر نظرية فوقية تعتبر “لي زافريكان” كما يُسميهم غالبية التونسيين، ناشرين عنهم صورا نمطية مشوهة وكأنهم من درجة ثانية، “يمارسون السحر الأسود ويحبون الحروب الأهلية ولديهم أمراض وبائية ومجاعات”، على الرغم من أن جلّ البلدان الإفريقية، بما فيهم تونس، تُعاني من المشاكل نفسها إلى حد بعيد منها: آثار الاستعمار، الفساد، الإفقار، البطالة وقمع الحريات.

وعلى الرغم من التضامن الذي كان بين حركات التحرّر الوطني الإفريقية، ورغم نزيف الهجرة الذي تعيشه كل بلدان القارة في العشريتين الأخيرتين، إلاّ أن فئة عريضة من التونسيين والتونسيات لا زالت تُعاني من عقدة تفوّق تجاه مواطني جنوب الصحراء أو حتى التونسيين سمر البشرة، رغم إنكار الكثيرين أنهم عنصريون وتكرار عبارة « نحن في تونس لسنا عنصريين ».