في وداع رئيس تونسي أسبق.. تساؤلات عن عدم نعيه من رئاسة الجمهورية ونقاش عن العُرف السياسي
محمولا نعشه في الصندوق الخلفي لإحدى السيارات، ومحفوفا بعدد محدود من المشيّعين لا يتجاوزون العشرات، بدت جنازة الرئيس التونسي الأسبق، والسياسي المخضرم فؤاد المبزع، أبعد ما يكون عما يفترض أن يحظى به الراحل من تكريم في وداعه الأخير، بالنظر إلى مكانته وتاريخه السياسي والوطني، والدور الذي اضطلع به إبان الثورة التونسية حين تحمّل مسؤولية رئاسة البلاد في لحظة هشة محفوفة بالمخاطر، قبل أن يسلم الأمانة عقب انتخابات المجلس الوطني التأسيسي في أكتوبر2011.
مشهدية جنازة الراحل فؤاد المبزع، عكست في تواضعها وبساطتها، منهج الرجل في الابتعاد عن الأضواء واعتزال المشهد العام منذ مغادرته قصر قرطاج قبل أكثر من 14 عاما، لكنها كرست في الآن ذاته “تنكّرا وتهميشا لأحد رموز الدولة الوطنية ورئيسا سابقا للجمهورية”، وكان يفترض أن “يحظى بجنازة وطنية تكريما له، واستلهاما من الأعراف والتقاليد السياسية المعمول بها”، وفق ما أجمع عليه مراقبون ومدوّنون، وناشطون سياسيون.
أهم الأخبار الآن:
غاب السواد الأعظم من الشخصيات السياسية والحزبية عن الموكب، باستثناء رئيس مجلس نواب الشعب إبراهيم بودربالة، ومصطفى بن جعفر رئيس المجلس الوطني التأسيسي وبعض الوجوه الأخرى، فيما خيّم “الصمت” على مراسم التشييع، إلا من كاميرا القناة الوطنية، وهو ما فاقم من موجة التساؤلات والانتقادات التي عمت منصات التواصل الاجتماعي، إذ عبّر عشرات من المدونين والنشطاء التونسيين عن غضبهم من تجاهل الحدث على المستوى الرسمي، باستثناء بيان النعي الصادر عن البرلمان، وعدم المبادرة إلى تشييع الراحل في جنازة رسمية.
صمت رئاسة الجمهورية استأثر بدوره بتدوينات كثيرة، وأسال “حبرا افتراضيا”، عن أسباب عدم قيام الرئيس قيس سعيد بنعي فؤاد المبزع. البعض الآخر تحدث عن تغييب تقاليد الدولة، وعدم إيلاء التشييع الأهمية التي يستحقه بالنظر إلى ما تمثله شخصية الراحل.
خلل في الذاكرة
في تدوينة مطوّلة، قال محمد أمين الزواوي: “رحل الرئيس الأسبق فؤاد المبزع، ودفن في صمت، تماما كما نبهنا وحذرنا من أن يحدث، غادر الرجل الحياة دون أن تكلف رئاسة الجمهورية نفسها عناء نشر نعي رسمي، ودون أن يُنظّم له موكب جنازة وطنية تليق برجل تحمل مسؤولية قيادة البلاد في واحدة من أكثر اللحظات حساسية بعد الثورة”.
واعتبر أمين الزواوي أن تنظيم جنازة وطنية للمبزع، بصفته رئيسا أسبقا ليس “مجرد طقس بروتوكولي، بل فعل سيادي يكرّس هيبة الدولة واحترامها لماضيها، هو تعبير عن الوفاء، عن الاستمرارية، عن أن الدولة لا تتنكر لمن خدموها، حتى حين يختلف الخطاب أو تتغير السياقات”. أما الناشط عبد الهادي الحمزاوي فتحدث عن إحساسه بالغصة عند مشاهدته صورة جنازة المبزع، مضيفا أنه عندما “لا يأخذ أشخاص مثله حقهم في وداع يليق بتاريخهم، فإن هناك خللا في الذاكرة الجماعية”. وتابع: فؤاد المبزع يستحق جنازة وطنية، لا هكذا وداعا خافتا.
وانتقد حاتم بوقرة ما وصفه بالعقوق الذي تعرض له الراحل فؤاد المبزع فكتب: خسارة هذا العقوق الذي أراه كل مرة في بلادي، جنازة أقل من عادية، رغم أن المرحوم فؤاد المبزع رجل دولة بامتياز، ترك ورائه إرثا نضاليا كبيرا، تقلّد العديد من المناصب العليا ٱخرها رئيس للجمهورية التونسية، ولم يُعرف عنه أي شائبة.
الصحفي فطين حفصية، تحدث في منشور على فيسبوك، عن ذكريات لقاءات ثلاث جمعته بالرئيس الأسبق، وتجربته السياسية المخضرمة، قبل أن يعلق بشكل ضمني على تشييعه الذي “لا يليق بالمقام والتاريخ السياسي للبلاد”، وفق تعبيره. وأضاف: لم يلعب أبدا لعبة “البيض والحجر” مع دوائر الحكم وبطانته طيلة حياته، وإنما كان خلفيا ودون ضجيج، كحال رحيله الهادئ يوم أمس، دون تشييع يليق بالمقام أولا، والتاريخ السياسي للبلاد ثانيا وبنواميس الدولة تاليا، وتلك قصة أخرى.
استمرارية الدولة
من جانبه، اعتبر الناشط السياسي ورئيس حزب مشروع تونس محسن مرزوق، أن “تنظيم جنازة رسمية لرئيس سابق حتى وإن اختلف مع الرئيس الذي يليه أو الموجود في السلطة، ليست حركة مزية ولا مسألة شكلية، بل هي تأكيد لاستمرارية الدولة وإعلان بعلوّها على تقلبات السياسة”.
واستشهد مرزوق بالجنازة الرسمية للرئيس الحبيب بورقيبة، والتي نظمها “بن علي رغم انقلابه عليه”.
وأردف: “مصر دفنت حسني مبارك بعد أن حاكمته في جنازة عسكرية مهيبة بحضور السيسي، والجزائر دفنت بوتفليقة في جنازة رسمية رغم أنها كانت تحاكم شقيقه وأركان نظامه، ذلك هو منطق الدولة”.
في السياق ذاته، انتقد الناشط السياسي عبد الوهاب الهاني غياب مراسم الدولة عن جنازة الفقيد المبزع. وجاء في منشور الهاني: عيب كبير أن تغيب الدولة ومراسم الدولة وأعلى سلطات الدولة التنفيذية والتشريعية والقضائية والدينية في جنازة الرئيس فؤاد.
الصحفي نور الدين المباركي، تطرّق في تحليل نشره على فيسبوك إلى الأصوات التي انتقدت عدم تنظيم تشييع وطني للرئيس الأسبق المبزع، وناقش المسألة على المستوى القانوني والسياسي.
المباركي أقر بعدم وجود “قانون مكتوب يُلزم الدولة بتنظيم جنازة رسمية للرؤساء السابقين”، لكنه أشار في المقابل، إلى “الأعراف المتّبعة والقرارات السياسية التي تتدخّل في تحديد طبيعة المراسم، كما حدث في جنازة الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، التي اتّسمت بصبغة رسمية”.
ويخلص المباركي إلى القول بأن “جنازات الرؤساء، سواءً دائمين أو مؤقتين، انعكاسا لثقافة الدولة في التعامل مع رموزها التاريخية، وقدرتها على الفصل بين الخلاف السياسي والالتزام البروتوكولي”.


أضف تعليقا