في زمن “الثورات الثلاث”..هل فقدت “العودة السياسية” في تونس معناها؟

عبدالسلام الزبيدي 

 

ازدانت السلّة الدلالية للمفردات الخطابية لرئيس الجمهورية قيس سعيّد بعبارة جديدة أطلقها لأوّل مرّة عند إشرافه على مجلس الوزراء يوم 29 أوت 2025 بقصر الرئاسة بقرطاج. فقد جمع في ختام البلاغ المنشور على واسطة التواصل الأساسية مع الشعب ألا وهي صفحة الفيسبوك الرسمية، بين ثلاث ثورات اعتاد التطرّق لكلّ واحدة منها على حدة.

 

وتتمثّل الثورات الثلاث في الثورة التشريعية والثورة الإدارية التي تشفع سابقتها، أمّا التتويج فيكون ثورةً ثقافية “لا رجوع بعدها إلى الماضي البغيض وإلى الوراء”. ليكون اختتام البلاغ بتضمين بيت شعر جيء به من ماضٍ كان بغيضا سياسيا. فبالاستناد إلى أحمد شوقي والاستنجاد به، ذكر البلاغ المتطابق مع أسلوب سعيّد الخطابي “وما نيل المطالب بالوعود والتمنّي ولكن تؤخذ الدنيا بقوة القانون العادل غلابا”.

 

نسف الثوابت الوطنية

 

وسبقت الفقرة الختامية إشارة من سعيّد للعودة الدراسية من الابتدائي إلى العالي والتشديد على ضرورة ضمان ظروف ملائمة لإنجاحها. وهذا دأب كلّ من ولج قصر قرطاج قبله بدءًا بالحبيب بورقيبة وصولا إلى قائم مقام رئيس الجمهورية محمد الناصر، ومرورا بزين العابدين بن علي وفؤاد المبزّع ومحمد المنصف المرزوقي والباجي قايد السبسي. لكنّ الفارق بين الرئيس الحالي وكلّ من سبقوه أنّهم كانوا يولون أهمية لعودة أخرى لا صلة لها بالدراسة والتدريس.

 

إنّها العودة السياسية بما هي تكثيف للعمل السياسي من مؤتمرات واجتماعات وطرح خيارات وإعداد للخوض في قضايا ميزانية العام المقبل سواء من داخل مؤسسات الدولة (البرلمان) أو من خارجه. والكشف عن الأولويات الحزبية في علاقة بالأجندا الوطنية أو الإقليمية أو الدولية.

 

ولا تتعلّق العودة السياسية بزمن التعدّد الحقيقي خلال الحقبة التي تلت ثورة 17 ديسمبر 14 جانفي فقط، بل شملت زمن الحزب الواحد في الفترة البورقيبية الأولى أو زمن فتح مجال العمل السياسي والمنظماتي في الثمانينات، وكذلك في عهد توزّع المشهد السياسي التونسي بين القانوني المرخّص له بشقيّه الشكلي والديكوري أو المعارض، وبين الأحزاب التي حجبت عنها السلطة الاعتراف القانوني.

 

فقد كانت العودة السياسية من ثوابت الشأن العام في تونس، سواء زمن الاستبداد بأنماطه المختلفة أو زمن الحريّة ذات المنسوب العالي والهشّة. وكانت تشمل الأحزاب والمنظمات والهيئات والجمعيات.

 

أمّا في الفترة التي تلت إجراءات 25 جويلية 2021 فقد تحوّل الصانع الوحيد للسياسات بحكم التفويض الذاتي لنفسه ( قرارات 25 جويلية والأمر عدد 117 لسنة 2021) أو بحكم دستور 25 جويلية الذي كتبه رئيس الجمهورية بنفسه وجعل فيه فصلا يمنح للجالس في قصر قرطاج الصلاحية الحصرية لضبط السياسات العامة للدولة ( الفصل 100)، فضلا عن طمس المنزلة الدستورية للمعارضة ونزع الصفة الدستورية عن عدد من الهيئات المستقلّة.

 

فلا معنى للعودة السياسية ضمن جمهورية البناء والتشييد المعلنة ذاتيا. والسبب الأساسي هو أنّ طبيعة النظام الذي هو بصدد الإرساء لا يعترف بكلّ أنماط الوسائط السياسية والمنظماتية إلاّ تلك التي ترتضي الانخراط في “حرب التحرير” وتسير في ركاب السياسات التي لم تعد شأنا عاما يشترك التونسيون في صياغتها. إنّها حكر على من فوّض إليه الدستور رسمها، وما على الجمْع إلاّ إثبات وطنيّتهم بالتنفيذ والإنجاز وعدم السير وراء المعطِّلين والمُثَبِّطين والمتآمرين مع الخارج.

 

 

سعيّد والثورات الثلاث

 

 

يعكس شطب “مقولة العودة السياسية” من السجّل التداولي في تونس ما بعد 25 جويلية طبيعة النظام الجديد، وهو ليس مجرّد انعكاس لضمور العمل الحزبي والمنظماتي. ومن يريد فهم الواقع السياسي الحالي عليه التطرّق إلى مسائل طبيعة النظام ذاته، ومعنى إلغاء الوسائط، ومكوّنات المنظومة الجديدة بهرميتها الشكلية ومركزيتها الجوهرية، وصولا إلى قتل السياسة ليس بمعناها المألوف في تونس فقط، بل بمعناها الذي هو ثمرة قرون من الاجتهادات الإنسانية التي جعلت من الأحزاب عصب الحياة السياسية، ومن المنظمات والجمعيات تعبيرا مدنيا على إرادة الشعب بحسب القطاعات المهنية أو التخصصات الوظيفية أو الاهتمامات متعدّدة المشارب.

 

لا يعزب عن الملاحظ حقيقة تجريف الحياة السياسية والمنظماتية والجمعياتية بأساليب وطرق سبق أن تناولنا بعضها في مقالات سابقة. وعليه فإنّ ضمور الفعل السياسي بهذا المعنى يُعَدُّ نتيجة لهذا الوضع وليس سببا. فالشعب بصدد فقدان أدوات التعبير المؤسساتي عن نفسه حزبيا ومنظماتيا وجمعياتيا لصالح طريقة أخرى في التعبير عن مشاغله ومطالبه وحاجياته وأولوياته.

 

إنّ السبيل الأساسي للمشاركة في الحياة السياسية هي الانخراط في المنظومة الجديدة المسماة نظاما قاعديا ينطلق من المحليات ليمتد إلى الجهات والأقاليم ثم المستوى المركزي. وذلك في ترابط مع الآلية الجديدة المنتجة للثروة والموفّرة لمواطن الشغل ألا وهي الشركات الأهلية. لتغدو المجالس المحلية القاعدة السياسية الأساسية للمشاركة السياسية وخلق التنمية وأكثر من ذلك للولاء. كلّ ذلك في ظلّ السياسات التي يرسمها رئيس الجمهورية المعبّر عن إرادة الشعب الذي يريد، ويعرف ما يريد، وفوّض بالانتخابات للرئيس أن يرسم ويضبط ما يريد.

 

وقد أفصح رئيس الجمهورية عمّا يريد. إنّه يخوض بروح الشعب وإرادته حرب التحرير التي لا يشارك فيها إلاّ من حاز مقوّمات الوطنية ومميّزاتها. ولا تنقسم هذه الحرب إلى ثلاثة معارك وإنّما إلى ثلاث ثورات حسب ما جاء في البلاغ المشار إليه أعلاه.

 

فبعد تأكيدات متكررة على أهمية الثورة التشريعية لتغيير البلاد من حال إلى حال، ها هو يقول “إنّ الثورة التشريعية لوحدها غير كافية”. قد يكون هذا القول توضيحا أو تداركا أو نقدا ذاتيا، خاصة وأنّ الذاكرة الافتراضية والمعلوماتية تحتوي تصريحات تتضمّن التأكيد أنّ القانون كفيل بتحقيق الإنجازات. ومهما يكن من أمر فإنّ الصلاحيات الدستورية تسمح بهذه المساحة للضبط والتعديل والتوضيح بل والإلغاء. ولن تكون في البلاد عودة سياسية تضع ضمن أولوياتها وأجندتها منازعة راسم السياسية في مدى معقولية ونجاعة ما رسم.

أضف تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *