تونس ثقافة

في ذكرى رحيله السادسة والثمانين…أبو القاسم الشابي سفير الرومانسية والمتمرد الحالم

أسبغ عليه النقاد والباحثون والأكاديميون من المشرق والمغرب، عشرات الألقاب، ومنحوه  تسمياتٍ، أبرزها شاعر الخضراء، وصاحب إرادة الحياة، اعترافًا بعبقريته الشعرية ونبوغه الأدبي: أبو القاسم الشابي.
يختزل الشابي، عصارةً أدبيةً تونسيةً خالصةً، اقترنت بين دفتيها روح الشاعر العربي بنشيد عصره وقلق الشعر المتوثب فيه، وأشواق العاشق الرومانتيقي للحياة، الباحث عن المعنى، مقتبساً أسلوبه من تجارب الأدب الفرنسي والغربي الحديث.
 قدر الشابي برغم مسار حياته الدنيوي المحدود، أن يكون سابقًا لعصره، مثيرًا للجدل بقراءته للخيال الشعري عند العرب، متمردًا على البديهيات والقوالب الكلاسيكية الشعرية، والمسلمات والتقاليد الاجتماعية البالية. ما يزال بعض الباحثين إلى اليوم، وعبر دراستهم لسيرة الشابي، يبحثون عن تلك البواعث النفسية التي هيأت له الانغراس في مناخات الشعر والأدب، رغم البيئة الاجتماعية والعائلية المحافظة الغالبة على تقاليد الجريد التونسي، وفي كنف والده محمد الشابي القاضي الشرعي، وخريج جامع الزيتونة المعمور.
تساؤلات غاب عنها الغوص بين تفاصيل المحيط الفكري والطبيعي بمسقط رأسه توزر، أين يقرض السكان الشعر بالسليقة، وحيث يتدفق السجع والقوافي مثل النفس والهواء، بلا صناعةٍ ولا تكلفٍ أو محسناتٍ بديعيةٍ، فكيف لمن نشأ بين واحات الجريد أن لا يكتسب ذلك الإحساس العالي بالجمال ؟
ستة وثمانون عامًا تمضي على رحيل الشابي، تحت وطأة قلبٍ عليلٍ لم يستطع تحمل نزعات صاحبه لخوض المعارك التنويرية في مواجهة التحجر الفكري والتقليد، المثقل بهموم وطنه وشعبه الرازح تحت نير الاحتلال والاستعباد، وسفير جماعة ابولو الفكرية في تونس، بنهجه الرومانسي وعمق تأملاته في الحياة والوجود، وصلواته التي كرسها في هيكل الحب.
 المتأمل في سيرة أبي القاسم الشابي، والحقبة الزمنية التي عاصرها بكل تقلباتها السياسية والداخلية في تونس، قد يتفق على اعتبار شاعر الخضراء من رواد جيل المقاومة بالقلم، تلك النخبة التي صنعت بوادر نهضةٍ ثقافيةٍ وفكريةٍ معاصرةٍ، في مرحلة غلب عليها الركود الاجتماعي والقمع السياسي لكل القوى الحزبية والنقابية الناشطة في العمل الوطني.
أوجد ذلك اللفيف من المثقفين التونسيين، في اجتماعاته في مقهى تحت السور نواة حركةٍ ثقافيةٍ طلائعيةٍ، اتخذت من الفكر شعارًا لمعركة المقاومة الثقافية، ونشر مبادئ التنوير الثقافي، في موجهة ما أنتجته المنظومة الاستعمارية من انهيار القيم الأخلاقية والاجتماعية.
لم تكن تونس العشرينات والثلاثينات مهيأةً للاحتفاء بشاعرية الشابي، وعبقريته وروحه الخلاقة ونزعته المجددة، وتنزيله المكانة التي يستحقها، ولم تستعد لرحيله المبكر وتهيئة خليفته على عرش الشعر التونسي.
قدمت الحركة الثقافية التونسية منذ الاستقلال أجيالًا من عباقرة الشعر، ما تزال إبداعاتهم ماثلة بالذاكرة، لعل أبرزهم منور صمادح والصغير أولاد احمد، لكن تجاربهم رغم أهميتها لم تتمكن من تجاوز ما قدمه صاحب إرادة الحياة خلال أقل من ثلاثين سنة، ليظل السؤال: هل لتونس القدرة على إنجاب الشابي من جديد؟

معتقلو 25 جويلية