في ذكرى أحداث الخبز في تونس: من يعيد كتابة الرواية الحقيقية
tunigate post cover
تونس

في ذكرى أحداث الخبز في تونس: من يعيد كتابة الرواية الحقيقية

2021-01-03 21:50

في شهادته أمام هيئة الحقيقة والكرامة، تحدّث الفنان التونسي جمال ساسي شقيق الشهيد فاضل ساسي، أحد شهداء أحداث الخبز التي عرفتها تونس في يناير من عام 1984 قائلا: “كانت قمة القهر التي عانيناها كعائلة بعد استشهاد فاضل، أنّ والدي كان مطالبًا طوال سنوات بإمضاء إقرار دوري في مركز الشرطة بالقصبة بأنّ شقيقي لم يقتل برصاص قوات النظام”.

“تصوروا شهيد الخبز والأستاذ والناشط اليساري، الذي كانت تونس بأسرها تعلم تفاصيل مقتله خلال الاحتجاجات، كان النظام يصر على تعمية حقيقة وفاته والضغط على العائلة”.

ازدواجية الروايات

كلمات تختزل ازدواجية السردية التاريخية المرتبطة بانتفاضة الخبز في الذاكرة الوطنية، فبينما تُجمع الفعاليات السياسية والحقوقية والنقابية على وصفها بالانتفاضة الشعبية التي جاءت ردا على قرار حكومة محمد مزالي (1980-1986) برفع الدعم عن الخبز ومشتقات الدقيق، ما تزال الرواية الرسمية التي سوّقتها السلطة خلال تلك المرحلة عن “عصابات من الأشرار والمجرمين والمخرّبين” – تراوح مكانها في ظل غياب توجه لتصحيح الحقائق، وتقديم الصورة الحقيقية بأبعادها الكاملة.

برغم الجهود التي بُذلت على مستوى هيئة الحقيقة والكرامة لإعادة الاعتبار إلى ضحايا “انتفاضة الخبز”، وفتح ملفات تلك الحقبة السوداء من تاريخ تونس، إلا أن الجانب الأكبر من الحقائق ظل مُغيّبًا، مما جعل إعادة تدوين الأحداث أمرًا معقّدًا. 

لم تكن “أحداث الخبز” مجرّد غضب شعبي بسبب قرار مضاعفة سعره إلى 160 مليمًا، كما قرّر الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة بشكل ارتجالي ومفاجئ بعد مشاهدته تقريرا عن إهدار الخبز، كما تشير روايات المعاصرين لتلك المرحلة، بقدر ما مثّلت لحظة انفجار غضب عارم نتيجة تفاقم الاحتقان في الساحة الداخلية، والاضطرابات الاجتماعية والأزمات الاقتصادية التي كانت تعصف بالبلاد.

الجهات الداخلية تتحرك

عمّق بطش القبضة الأمنية التي ازدادت وطأتها منذ جانفي 78 من حالة التوتر العام، نتيجة الإمعان في استهداف القوى النقابية والفعاليات السياسية والطلابية، والرعب الذي كرّسته مليشيات الحزب الدستوري، وما جعل الساحة مهيأة أمام أول شرارة تُلهب الغضب الجماهيري.

ومثل أغلب الانتفاضات والثورات الشعبية التي عرفها التاريخ الوطني المعاصر، كانت الجهات الداخلية والمناطق الأشد بؤسا، المبادرة إلى إعلان الغضب في مواجهة السلطة.

انطلقت بوادر المظاهرات المناهضة لقرار زيادة الخبز من منطقة دوز يوم 29 ديسمبر 1983، وتحوّلت سريعًا إلى مواجهات شديدة بين المتظاهرين وقوات الأمن، والتي عجزت عن تطويق الموقف بعد تصاعد التحركات طوال الأيام الموالية، لتتحول المعالجة الأمنية إلى سياسة البطش الأعمى.

في شهادته على الأحداث، يصف الناشط علي الأسود المرزوقي مسار المواجهات التي شهدتها مدينة دوز قائلا: “كل المرازيق خرجت إلى التحركات وخاضت المواجهات مع قوات الأمن بلا استثناء، ونالها من بطش البوليس والضرب وقنابل الغاز الذي لم يستثني حتى المنازل”.

لم تنجح حملة الإيقافات الواسعة التي شملت أهالي دوز في اليوم الرابع في تهدئة التحركات بحسب علي المرزوقي، بل زادتها التهابًا لتنتقل شرارتها سريعًا إلى مدن أخرى أكبر ثقلا سكانيًا، وصولا إلى العاصمة.

نصيب مزالي من الرواية

في كتابه “نصيب من الحقيقة”، ظل الوزير الأول الراحل محمد مزالي، متشبّثًا بروايته عن أحداث الخبز التي أوردها في عدة منابر صحفية، والتي وصفها “بالمؤامرة” التي حاكها وزير الداخلية حينها إدريس قيقة ووسيلة بورقيبة زوجة الرئيس، “بهدف النيل من مكانة الوزير الأول بإثارة الغضب الشعبي ضده”.

يسوق مزالي عبر فصل كامل ملابسات مؤامرة الخبز التي حاكتها وسيلة لدفع بورقيبة لمضاعفة أسعاره نتيجة “إهدار النعمة”، وهو وصف يستعمله عموم التونسيين للتعبير عن سوء التصرف في الخبز، قبل أنْ يستنجد بالبعد الاقتصادي من خلال إبراز تضاعف عجز صندوق التعويض منذ مطلع الثمانيات، نتيجة الدعم الذي يبتلعه لدعم الدقيق والمعجنات ومشتقات الدقيق التي جعلت من الإصلاح الهيكلي عبر توجيه الدعم إلى مستحقيه، ضرورة سياسة واقتصادية بقطع النظر عن مؤامرة بطانة بورقيبة.

راوح الوزير الأول الراحل بين محاولة تبرئة ذمته من المسؤولية السياسية عن الأحداث وما نتج عنها من قتل للمتظاهرين وربطها بإدريس قيقة وزير الداخلية، الذي تعمد حسب روايته “إثارة فراغ أمني في البلاد عبر تعليمات بتجريد قوات الأمن من السلاح ما نتج عنه خروج الأوضاع عن السيطرة”.

يذهب مزالي في منظوره بعيدًا في الإساءة إلى التحركات الشعبية بوصفها “بانتفاضة الحرامية” مستعيرًا وصف الرئيس المصري الأسبق أنور السادات، “بعد أن شهدت المظاهرات التحاق عدد من البطالة والطلبة لركوب موجة الأحداث ونهب المغازات والتخريب والحرق”.

رواية مزالي تلتقي وتتناقض في بعض جوانبها مع شهادات مسؤولين آخرين في نظام بورقيبة، سبق لهم الإدلاء بها في لقاءات خاصة، وعبر تصريحات صحفية مجتزأة، أو عبر منابر بحثية وأكاديمية، وهي ترتبط قطعًا بوجهات نظر أصحابها ومواقعهم من المسؤولية، وحساباتهم السياسية والشخصية.

وفي ظل رحيل السواد الأعضم من رجالات بورقيبة، والشاهدين على العصر، تظل أمانة تدوين الحقيقة والاعتراف بمسؤولية الدولة عن التجاوزات المرتكبة، مهمة معقدة لحفظ الذاكرة الوطنية برسم المؤرخين والبقية الباقية من المحيطين بورقيبة الذين اختاروا بحكم الشيخوخة أو لعوامل أخرى الصمت والاعتزال. 

أحداث الخبز#
الحبيب بورقيبة#
فاضل ساسي#
محمد مزالي#

عناوين أخرى