عبدالسلام الزبيدي
عبّر رئيس الجمهورية قيس سعيّد خلال أوّل لقاء معلن له مع رئيس حكومته المعيّن عن نيّته إدخال عدد من التحويرات على تركيبة الحكومة، فضلا عن سدّ الشغورات في حقائب وزارية متعدّدة. وتتمثّل الشغورات في وزارة النقل ووزارة الشؤون الثقافية اللتين تُداران بتكليف وزيرة ووزير بالنيابة، ووزارة الشؤون الدينية التي ظلت دون مسؤول أوّل بعد إقالة إبراهيم الشائبي ساعات فقط بعد وصوله إلى تونس قادما من الحج باعتباره رئيس البعثة.
ولم يفوّت سعيّد فرصة اللقاء الأوّل يوم 8 أوت 2024، أي يوما واحدا بعد التعيين، حتّى يؤكّد ضرورة التناغم والانسجام في العمل الحكومي، مذكِّرًا بما ورد في الفصل السابع والثمانين من الدستور الذي ينصّ على أنّ مهمة الحكومة تتمثّل بل تنحصر في مساعدة رئيس الجمهورية على ممارسة الوظيفة التنفيذية. وفي هذا التذكير بمقتضيات الدستور رسمٌ لحدود رئيس الحكومة كي لا يحوم حول الحمى ويرتع كسلفه في صلاحيات غيره (رئيس الجمهورية).
التعيين ورسائله السلبية
فرغم تحوّل قيس سعيّد من رئيس إلى مترشّح، فإنّه بصدد العمل على تغيير تركيبة الحكومة قبل أقلّ من شهرين من الانتخابات. وللأمانة الفكرية ينبغي التنويه بأنّه لا يوجد أيّ مانع دستوري أو قانوني يحول دون إجراء التغييرات في مختلف المهام والوظائف التنفيذية بما فيها الوزارات (كلّ السلطات أصبحت وظائف بمقتضى الدستور الذي كتبه قيس سعيد بيده).
لكن رغم غياب المانع الدستوري والقانوني، فإنّ اعتباريْن اثنين يجعلان من تغيير تركيبة الحكومة أمرا يمكن وصفه بأنّه في غير محلّه. الاعتبار الأوّل أخلاقي، فلا معنى وبعبارات أدقّ لا جدوى من تعيين وزير يمكن تغييره بعد شهرين فقط إذا فشل رئيس الجمهورية في الفوز بعهدة جديدة. ذلك أنّ التعرّف على الوزارة ومؤسساتها وطرق عملها وضبط البرنامج واختيار فريق عمل، يحتاج وقتا يتجاوز هذه الفترة الزمنية بكثير. وعليه كان من الأجدر الانتظار إلى ما بعد الانتخابات.
أمّا الاعتبار الثاني فهو سياسي. فتونس دخلت منذ 14 جويلية الماضي الفترة الانتخابية، ولم يعد يفصل التونسيين عن الحملة إلاّ أسابيع قليلة، والإقدام على تغيير تركيبة الحكومة بعد تغيير رئيسها يوم 7 أوت رسالة سلبية. ذلك أنّه في الوقت الذي يحتاج فيه الجميع إلى رسائل إيجابية، يأتي هذا الإعلان ليوحي بأنّ ساكن قصر قرطاج يعمل بمنطق الاستمرار في المنصب، وليس بآليات من يضع نفسه في وضع المنتهية ولايته. لتُضاف هذه الرسالة إلى رسائل أخرى مفادها أنّنا في حرب تحرير، بما تتضمّنه من استمرارية المسار وضرورة المحافظة على القيادة أو الزعامة وعدم تغييرها، علاوة على ما قيل في وقت سابق من أنّ تسليم الأمانة لن يكون إلاّ للوطنيين الصادقين.
صحيح أنّ تعيين رئيس حكومة جديد والعمل على سدّ الشغورات وتغيير تركيبة الحكومة عمل دستوري وقانوني حتّى ولو تحوّل الرئيس إلى مرشّح وتبدّل وضع الحكومة إلى تصريف أعمال، فإنّ السياق السياسي والانتخابي يفترض التأجيل إلى ما بعد الإعلان عن النتائج. فالسياسة ليست إجراءات مطابقة للنصوص وإنّما هي كذلك مناخ وسياق وضمانات ورسائل.
العيب في الدستور
الآن وقد غدا تعيين رئيس حكومة جديد أمرا واقعا، والعمل على سدّ الشغورات وتغيير تركيبة الحكومة فضلا عن إجراء حركة للولاة دون أن نغفل عن الحركة الدبلوماسية أمرًا واقعا، فإنّ التساؤل ينزاح من شرعية أو معقولية التحوير إلى النجاعة. فأيّ نجاعة ممكنة لحكومة في زمن تصريف الأعمال وتحوُّل العملية الانتخابية إلى قطب الرحى العمل السياسي برمّته سواء لدى السلطة أو المعارضة أو المجتمع المدني وعموم المواطنين؟ ولعلّ السؤال الأكثر عمقا هو أيّ دور للحكومة ذاتها وفق مقتضيات الدستور الجديد أوّلا، ووفق طبيعة شخصية رئيسها الحقيقي دستوريا أي رئيس الجمهورية؟
إنّ الحكومة وفق الدستور ساري المفعول يعتبر الحكومة برئيسها جزءًا من الوظيفة (وليس السلطة) التنفيذية التي يرأسها رئيس الجمهورية نفسه. هذا الرئيس هو الذي يعيّن رئيس الحكومة دون حاجة إلى استشارة أيّ طرف، ولا يعرض التعيين على التصويت في الغرفة البرلمانية الأولى أو الثانية. وهو لا يحتاج إلاّ تقييمه الذاتي وقراره الشخصي ليقيل المسمّى دستوريا رئيس الحكومة، في حين أنّه لا يرأس على وجه الحقيقة وإنّما يساعد وينسّق ويُنفّذ. والعبارات الثلاث واردة في باب الوظيفة التنفيذية من دستور 2022.
وينّص الدستور على أنّ رئيس الجمهورية، وفي هذه الحالة قيس سعيد، هو من يعيّن بقيّة أعضاء الحكومة باقتراح من رئيسها (أي رئيس الحكومة)، وذلك وفق الفصل 101. وإذا كان النص يمنح رئيس الحكومة صلاحية الاقتراح، فإنّنا في حاجة إلى التأكّد من أنّ نجلاء بودن وأحمد الحشاني قد اقترحا على سعيّد أسماء عدد من الوزراء المعينين. علما أنّنا أمام فرصة لاكتشاف أسماء الوزراء الذين سيقترحهم رئيس الحكومة الجديد كمال المدوري، والنظر في ما إذا كان سعيّد سيقبلها. فالمعضلة اليوم تكمن في عدم النفاذ إلى المعلومات، والاقتصار على الاطلاّع على ما تجود به البلاغات الرئاسية فحسب.
أمّا إنهاء المهام فله آليتان أولاهما تلقائيا. ومعنى عبارة تلقائيا هو أن تكون الإقالة (الإعفاء) صادرة عن رئيس الجمهورية شخصيا، دون الحاجة إلى الاستشارة أو الاقتراح. وتتمثل الآلية الثانية في منح رئيس الحكومة صلاحية الاقتراح فقط. وترجمة ذلك أنّه يمكن لرئيس الجمهورية أن يعفي عضوا من فريق رئيس الحكومة دون أن يرجع إليه، ويمكن لهذا الذي يترأس الحكومة أن يطلب إقالة عضو من فريق دون أن تكون الاستجابة آلية!.
وممّا يؤكد أنّ الرئيس الفعلي للحكومة هو رئيس الجمهورية، ما ورد في الفصل 103 من أنّه لرئيس الحكومة أن ينوب رئيس الجمهورية عند الاقتضاء في رئاسة مجلس الوزراء أو أيّ مجلس آخر. فرئيس مجلس الوزراء هو رئيس الدولة، أمّا رئيس الحكومة فيرأسه نائبا، وذلك عكس دستور 2014 الذي يمنح صلاحية رئاسة هذا المجلس لرئيس الحكومة ويمكن لرئيس الدولة أن يرأسه عند الطلب وفي حالات محددة وبضوابط.
لذلك كان قيس سعيد حريصا على التذكير بأنّ عديد الوزراء ما يزالون يحنّون إلى الماضي الذي يصفه بالوراء، وأنّهم يتناسون أنّ الدور الحصري للمسمى رئيس الحكومة هو السهر على تنفيذ السياسة العامّة للدولة طبق التوجهات والاختيارات التي يضبطها رئيس الجمهوّري، وأنّ كل ما عليه القيام به هو تسيير الحكومة وتنسيق أعمالها والتصرّف في دواليب الإدارة.
وإذا كان الوضع دستوريا على هذا الحال، فلا معنى للحديث عن حكومة ورئيس لها على وجه الحقيقة. إنّنا أمام مؤسسة تنتمي إليها مجموعة من المساعدين برتبة رئيس فريق وأعضاء برتبة وزراء. فرئيس حكومة لا يساهم في ضبط السياسات العامة والتوجهات والاختيارات ويقتصر دوره على التنسيق، ولا يملك صلاحية التعيين أو الإعفاء (الاقتراح فقط) من الصعب أن يكون قائدا حقيقيا يلتف حوله الوزراء. إنّنا في وضع دستوري يجعل من رئيس الحكومة مجرّد مساعد لرئيس الجمهورية، ومن فريقه وزراء كلّ واحد منهم يساعد على طريقته صاحب سلطة التعيين والإعفاء.
على هذا الأساس يمكن فهم أسباب “غضب” رئيس الجمهورية على من لم يفهموا مقتضيات الدستور الجديد. ومن هنا يمكن فتح بوّابة تقييم الأداء وتحميل المسؤوليات وإدراك دلالات التعيين والإعفاء، خاصة أننا قد ولجنا في الزمن الانتخابي منذ 14 جويلية الماضي.