رأي سياسة

في الخلفيّة الثقافية لصعود اليمين عند د. عزمي بشارة 1/2

فــوزي الصــدقاوي
اهتم د. عزمي بشارة بما بدا لافتا لعموم الباحثين، من مؤشرات ذات دلالات قويّة على تنامي ظاهرة اليمين، وتصدر رموزه الواجهة السياسية(*)، في أنحاء كثيرة من العالم، وكان صعود دونالد ترامب إلى الرئاسة في انتخابات سنة 2016 بالولايات المتحدة الأمريكية، قد أثار دهشة الخبراء والملاحظين تجاه سلوك الناس الانتخابي، الذي كان تعبيرا عن صعود اليمين الشعبوي، وتصويته لفائدة مترشح على درجة غير معتادة من ركاكة الشخصية، وبذاءة اللسان، وبخطاب مشحون بالتذمر من التحوّلات التي يشهدها العالم، وبفظاظة اللسان ضد خصومه ونبرته الساخرة، مع حرصه الدائم على التعبير بصورة تـَعمل على إثارة الغرائز والاستثمار في مخاوف الناس الدينية.
ومع تبني قوى سياسية واجتماعية وازنة هذا الخطاب، أصبح من اليسير أن تظهر شخصيّة على شاكلة دونالد ترامب، كما صار يمكن لهذه الظاهرة، التي تبدو مستجدة، أن تصوغ لنفسها مركّبا خطابيا(Discursive) قائما على البعدين : الثقافي والسياسي. بعدما بات هذا الخطاب، أكثر انتشارا في الولايات المتحدة الأمريكية، وأكثر ذيوعا أيضا لدى فئات واسعة، في بلدان الاقتصاديات الغربية المتطوّرة، وفي أنحاء من أوروبا الشرقية مثل هنغاريا وبولندا والتشيك، وهي دول تطمح إلى أن تتموضع في الغرب، على أساس ثقافتها.
ويمكن أن تكون العناصر الأساسية التالية التي تميز الحركات اليمينية الجديدة، في أوروبا وفي الولايات المتحدة الأمريكية، عناصر خمسة جامعة وهي : عداءها للنخب، ورفضها للعولمة والتجارة الحرة ومخاطبتها خوف الناس من الهجرة الوافدة وشحذها مشاعر القومية لدى جمهورها وإثارة مخاوفهم من ضياع هويتهم في ظل التعددية الثقافية… والاشتغال على ربط الإسلام بالإرهاب وإذكاء مشاعر الإسلاموفوبيا.
وبصرف النظر عن مستوى التطوّر الاقتصادي الاجتماعي، فإن هذه الظواهر في بلدان أخرى في العالم، تلتقي مع ما يمثله عادة “اليمين القومي” بخطابه حول قضايا السيادة والمجال الحيوي للدولة ورفض التدخل في الشؤون الدولة الداخليّة بذرائع حقوق الإنسان، ومطابقة سيادة الدولة (النظام الحاكم) وسيادة الرئيس بقيود يحددها النظام بنفسه، ورسمها حدودا للحرية يتسع هامشها ويضيق حسب مصلحته. وهذه الظواهر المجتمعيّة، لا تفتأ تنشر موقفا شعبويا معاديا للسياسة ومعارَضة تدخل المحاكم الدستورية لحماية مبادئ الديمقراطيّة الليبرالية.
ويلاحظ عزمي بشارة، في هذا المستوى أن غالب التحليلات التي تحاول فهم ظاهرة صعود اليمين، تتجه إلى مقاربة الظاهرة بالبعدين الاقتصادي والسياسي، على ضوء نتائج الأزمة المالية والاقتصاديّة لسنة 2008، وما نجم عنها من تضرر قطاعات اجتماعية وعمّالية واسعة، خاصة بعد خراب مناطق “ما بعد صناعية” في أمريكا،  وهي الأضرار التي أدت في أوروبا، إلى أن معاقل تقليدية لحزب العمّال البريطاني صوتت ضد رأي حزب العمال، لجهة قرار الخروج من الاتحاد الأوروبي.
لكن فهم التناقض الحاد ضمن هذه الاستراتيجيات في مثل هذا الظرف التاريخي الراهن، حسب بشارة، لا يفسره بصورة أساسية التناقض الطبقي بالمعنى الكلاسيكي، لأنّه من العسير فهم هذه الظاهرة دون السياق الثقافي، ودون منحه الأهميّة الكافية في التحليل، إذ يَسمح البعد الثقافي، برؤية العناصر المحددة للتناقضات التي تشق المعسكريْن والتي ستُحوّل التناقضات إلى نزاع بين معسكرات ثقافيّة مصحوبة ببعد اقتصادي. فهذه الخلفية الثقافيّة كما يسميها عزمي بشارة، تستحق أن تُقرأ من خلالها الظاهرة، من أجل فهم طبيعة النزاعات المحتدمة ليس فقط داخل المجتمع بل بين تكتلات ثقافية متعددة في التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية الواحدة.
يكشف التمايز بين هذه الاستراتيجيات، عن عدم وجود انسجام داخلي واضح، إذ يبدو أحد المعسكرين (الأول)، ليبراليا ونخبويا في ثقافته، وليس بالضرورة في طبقته الاجتماعية، وهو أكثر علمانية وأكثر تحصيلا علميا من الثاني. بينما يبدو المعسكر الآخر (الثاني)، وطنيا وشعبويا ومعاديا للأجانب والهجرة. وهو في ثقافته وخطابه السياسي أكثر تدينا. ومن المؤكّد أن تطوّر المجال الرقمي جعل من وسائل التواصل الاجتماعي، يُسهم في تمكين فئات المعسكر الثاني من المشاركة السياسية المباشرة من دون رقابة النخب التي ظلت تسيطر على وسائل الإعلام وكانت تتحكم في الغربلة. فضلا عمّا كانت وسائل الإعلام الرئيسية تضخه من خلال مسايرة الثقافة السائدة وإعادة إنتاجها استهلاكيا.
تنتمي الشريحة الاجتماعية الأولى إلى الفئات الوسطى المتكوّنة من موظفين وأكاديميين وتستقر في المدن الكبرى، وهي ذات ميول ليبرالية على المستوى الثقافي والاجتماعي والسياسي، ومنسجمة مع العولمة ومناخ الحريات، ويمكنها أن تتحمّل الاختلاف لكونها تسيطر على مراكز القرار وصنع السياسات، ولا يمكن تبرئتها من الشعور بالتفوّق  وهي غير بعيدة عن التفكير في مركزيّتها الأوروبية. لكن المناخ الذي أتاحته هذه البئية الاجتماعية والصراع الجيلي المرافق، ساعد على تنشئة جيل يتبنى أخلاقيا القيم الليبرالية.
أمّا الشريحة الاجتماعية الثانية، فهي تقليدية عابرة للطبقات، وتقيم غالبا في الأرياف الغنيّة والفقيرة المحافظة في الولايات المتحدة الأمريكية وفي أوروبا، وعند الأزمات تلتقي مع شرائح  اجتماعيّة أضرت الحداثة والعولمة بمكاسبها الاجتماعيّة. وهي ممتعضة من النخب والمؤسسة ومن تغول الاحتكارات الكبرى ومن فقدان العمل أو من أزمات البورصة والاستثمارات  الفاشلة.
وبقدر ما شكّل الثقافي عنصرا شارحا للظاهرة كما يؤكد عزمي بشارة، ومحددا أساسيا في التمايز بين القوة الاجتماعية في الغرب الأمريكي وأوروبا، واستطاع أن يسحب النزاع بينها  إلى مركز الثقافي/ الهوية، فإنّ أزمات الغرب الاقتصادية والاجتماعية التي شهدها مجال/مركز النزاع هذا، كانت تتسبب على نحو دائم في تزعزع الرابط بين الديمقراطية والليبرالية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) بشارة، عزمي، صعود اليمين واستيراد صراع الحضارات إلى الداخل، سياسات عربية، العدد 23، نوفمبر 2016، صص7-19.