ثقافة

فيلسوف اللا عنف…جودت سعيد “غاندي سوريا”


عندما تطلع على سيرته، تكتشف مدى تشابه مساره وشخصيته وتجربته وقناعاته مع المناضل الهندي الكبير غاندي، في التبشير بفلسفة المقاومة السلمية ومناهضة العنف، إذ كان صوتا عاقلا هادئا نابضا بالحكمة في زمن الحرب والاقتتال الداخلي الذي مزق طوال سنوات مريرة خارطة سوريا.

لم يكن غريبا أن يحمل الداعية المسلم والمفكر الإسلامي السوري جودت سعيد الذي رحل السبت الماضي عن سن ناهزت 91 عاما لقب “غاندي سوريا”، بكل هذه الصفات والقناعات التي اكتنزها في شخصيته، والثوابت الفكرية التي دافع عنها منذ سنوات شبابه، في مواجهة قمع  الأنظمة واستبدادها مبشرا بالتغيير عبر سياسة اللاعنف.

ارتباط جذري بين الإسلام والمقاومة السلمية

فعلى مدار مسيرته الفكرية التي امتدت لأكثر من سبعة عقود، ربط جودت سعيد مبدأ المقاومة السلمية بالإسلام بشكل جذري.

منذ كتابه الأول “مذهب ابن آدم الأول” الذي وضعه في منطلق تجربته البحثية، ناقش سعيد مفهوم عدم مجابهة العنف بالعنف والنار بالنار أو الغضب بالغضب، داعيا إلى تبني خط سياسي وفكري جديد يقوم على رفض العنف وعدم الانسياق إليه، ومجابهة الاستبداد بالوسائل السلمية باعتبارها أسسا فكرية وقيمية ودينية إسلامية.

بشر جودت سعيد برؤيته التي لم تكن مجرد اجتهاد فكري سياسي، بقدر ما تستلهم من أحكام الإسلام وتشريعاته، باعتبارها منظومة متكاملة يتداخل فيها البعد السياسي بالبعدين الاجتماعي والاقتصادي للمجتمع المسلم، وتواكب احتياجاته في كل الظروف، عبر إتاحة باب الاجتهاد واستنباط الأحكام والتصورات بشكل مستمر.

ولم تحظ شخصية أكاديمية أو فكرية سورية بهذا الفيض من الإجماع، بمثل ما قوبل به “شيخ المقاومة السلمية” و”فيلسوف اللاعنف” من مختلف القوى السورية المعارضة على اختلاف توجهاتها السياسية والفكرية، فقد نعاه لفيف كبير من الناشطين المدنيين والعلمانيين، وأثنوا على تجربته وتضحياته ومواجهته السجون والملاحقات والظلم دفاعا عن أفكاره.

وصفه عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الدكتور علي القره داغي، بكونه “من مؤسسي المقاومة المدنية وكان وفيا لمبادئه مصراً على رفض الظلم”، فيما اعتبره رئيس الائتلاف السوري المعارض السابق معاذ الخطيب، “داعية السلم والسلام، في زمن صار فيه السوريون أحوج من أي وقت إلى سلم يضمهم جميعا”.

استمرار لمدرسة مالك بن نبي ومحمد اقبال

تشكلت توجهات جودت سعيد واتجاهه الفكري مع دراسته بالأزهر الشريف واكتشافه تاريخ الفكر الإسلامي وكبار منظريه وفلاسفته، لكنه أظهر تأثرا كبيرا وجليا منذ تلك المرحلة بالمفكر الجزائري الراحل مالك بن نبي، وكذلك المفكر الهندي المسلم محمد إقبال، ورؤيتهما للمنهج الإسلامي في السياسة، وفكرة عدم الإكراه في الدين والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة.

ترسخ منطق النقاش الهادئ والحكمة المتزنة وقوة البلاغة والحجة والانفتاح الحضاري لدى مالك بن نبي في وجدان سعيد، لينصهر مع دعوة محمد إقبال إلى مواجهة الكراهية بالحب والقسوة باللين، وعدم الانجرار إلى العنف حتى يتمايز المظلوم عن الظالم ولا يتساوى معه.

في محاضرته ومقابلاته الأكاديمية والعلمية، يفسر جودت سعيد نظرية المقاومة السلمية بكونها من صلب الفكر الإسلامي وتنسجم مع روح الشريعة وسيرة الرسول الأكرم السياسية والدينية بالقول، “يجب حل المشاكل والصعاب بالطرق الحضارية، وليس باستخدام القوة فلا توجد قوة على وجه الأرض تستطيع تغيير قناعات أحد وأفكارهباستخدام الضغط والقوة، فالقرآن يوصينا بعدم استخدام الإكراه في الإقناع”، مشيرا إلى أن “الضغط يولد ردود فعل قوية”.

دعوة إلى إعمال العقل والاستخلاف في الأرض

يمكن تفسير مفهوم اللاعنف من منظور المفكر السوري الراحل، بأنه دعوة إلى إعمال العقل والتفكر والحكمة، باعتبار أن العنف هو حالة تشنج واندفاع قصوى تنتفي معها سلطة العقل على الإنسان.

“من ضربك على خدك الأيمن مد له الأيسر”، من دعوة السيد المسيح وصولا إلى وصايا النبي محمد والنموذج الذي سطرته إزاء كراهية قريش وجورها عليه، والتي تنضاف إلى الدعوات القرآنية الصريحة بالأخذ بالمعروف ومقابلة السيئة بالحسنة، انطلق شيخ المقاومة السلمية السوري في صياغة معالم رؤيته التي شرحها لاحقا في أكثر من مؤلف وكتاب، على غرار “حتى يغيروا ما في أنفسهم” و”مشكلة العنف في العمل الإسلامي”، والتي طرح من خلالها قضايا الاستبداد في التاريخ الإسلامي وتجارب مواجهته، فضلا عن تقييم مسار التيارات الإسلامية في الوطن العربي والعالم الإسلامي.

واجه جودت سعيد على خلفية نشاطه الفكري محن السجن والاعتقال والملاحقات الأمنية بقوة الحرية وهدوء العقل، وتحمل مسؤولية الدفاع عن العدالة ببلاغة الموقف والكلمة في مواجهة سوط الجلاد في مناسبات متكررة، كما بادر في سنة 2011 بالانحياز إلى الثورة الشعبية في سوريا منذ انطلاقتها داعيا المتظاهرين والشباب إلى الحفاظ على سلميتها حتى تكون انعكاسا لشعاراتها وعدالة مطالبها وركيزة لانتصارها، موصيا الثوار “لا تسبوا ولا تضربوا ولا تهربوا، اثبتوا وقولوا لا إله إلا الله”.

يرى المفكر السوري الراحل أن مسؤولية الفكر والتنوير هي الركيزة الكبرى لمواجهة الاستبداد السياسي، باعتبارها أمانة إلاهية تجسد إحدى مقاصدالاستخلاف في الأرض لا بد أن ينهض بها العلماء من مفكرين وفلاسفة الدين وأساتذة الجامعات، قائلا “لو قام العلماء بدورهم في تحرير الإنسان لما وجد الاستبداد، ولما كان الحاكم يفرض نفسه على الناس بمنطق أنا ربكم الأعلى، وأن يحتكم إلىالانتخابات وأن يرجع إلى بيته إذا فشل”.

ويستحضر سعيد ضمن مرجعيته القرآنية قصة فرعون، معتبرا أنها وثيقة الصلة بقضية السلطة والحكم في الوطن العربي، فكل الآيات التي وصفت فرعون تمثل انعكاسا لواقع الأنظمة الديكتاتورية اليوم.