وجدان بوعبدالله
كانت فيروز ذاك الصباح تغني ” فيه أمل ” وكنت أتعثر بكلماتها وأتجنب الانزلاق في حزمة المشاعر المخفية كالألغام بين قوافيها. هذا عام كورونا وما زلت متشبثة بالأمل.
في بيت آخر تقول: “عندي سنونو وفي عندي قرميد..بعرف شو يعني إذا أنت بعيد”. وأنا أيضا عندي سنونو (خطاف في اللهجة التونسية)، مُخبأ لربيع قادم، وقرميد على شباكي ينتظر الثلج، والزهر لم يغط الحقول بعد.
بيني وبين فيروز حوار باطني معتّق، تعودت على الحديث معها وأنا أدندن خلفها أو قبلها بجملة – في نشاز أُقرّ به– .أسألها لماذا تنتظر دائما في أغانيها؟ تنتظر تحت المطر والثلج في ركن دافئ أو على مرفأ بارد، على “جسر اللوزية” أو تحت القناطر. هي دائمة الانتظار ولشدة ما تنتظر “يروح وينساها و تدبل بالشتي “. هي بنفسها تعترف بذلك، تقرّ بهطولها الداخلي الدائم، السابق لحالة الذبول لاحقاً …
فيروز أنقم عليك
نعم أنقم على فيروز بشدة، من شدة حبي لها.
أنقم عليها، على هذا التراث الغنائي الثري الذي تركته لنا – أطال الله في عمرها – هذا التراث الغنائي الذي فيه إباء وعزة وتمسك بالأرض، حب للوطن وركض وراء النحل. الصور الشعرية في أغاني فيروز تحضر فيها الطبيعة بشدة، رائحة الزعتر والإكليل، حشراتها أيضاً يا الله موجودة، كل التفاصيل الصغيرة حاضرة، تلك التي نمر بها ولا نتوقف عندها، فجأة تصبح مهمة في أغاني فيروز بل تصنع كل الأغنية والكثير من الدهشة معها. جناح فراشة يكفي ليصنع أغنية وتلك عظمة المدرسة الرحبانية وصوت فيروز الناطق الرسمي باسمها خلق من تفاصيل النحل ملحمة موسيقية.
لكن في المدرسة الرحبانية أيضا، فيروز العاشقة مجبرة على أن تذبل تحت المطر
أو بالأحرى على العاشقة في التراث الغنائي لفيروز – الشامخة في وقوفها على ركح المسرح حتى وهي تذرف دمعة أبية – لزاما عليها أن تذبل، هكذا هي المرأة في الصورة النمطية للتراث الرحباني، وهنا المشكلة.
كأن الرقة والنعومة وملائكية الصوت الفيروزي ملازمة بالضرورة للانكسار، لا بل للتبعية لمن تحب، للأقدار والاستسلام لحالة انتظار لا تنتهي. فيروز ناطرة ناطرة (ناطرة تعني منتظرة في لهجة بلاد الشام) دائماً في أغانيها.
أنا ولدت في بيت يعشق فيروز مثل حال عربيات كثيرات، حتى لو قالوا أم كلثوم ساكنة في كل بيت. الحيطان في بيتنا تغني لفيروز بشكل منحاز تماماً لها ويجيبها القرميد في القافية التي تليها. موروث عائلي تحول إلى موروث شخصي بعد ذلك. في تونس ترافقنا أغاني فيروز حين نفتح الراديو صباحاً، نذيعها على إذاعة المعاهد، ونعود ندندن بها في الاستراحة المدرسية “ياه ياه يا سهر الليالي” ونحن نحاكي بعض المرح العابر.
فيروز في حالتي هي أكثر من فنانة، هي رفيقة درب في عواصم الغربة، صديقة غير مرئية ترافقني في حالاتي المتناقضة: الغضب والفرح والحزن والحب كذلك.
الحب حاضر بقوة في أغاني فيروز لكنها حين تغني للحب لا تسميه، لا تقل في أغانيها إنها عاشقة، تسترسل في ابتهالات عشق طويلة في أغنية كاملة، ستجد العشق في الجفون، في البكي، في الحكي، في الرياح التي يرسل معها السلام من الحبيب إلى الحبيبة أو العكس، في الخطابات الزرقاء المكتوبة على ضوء القنديل، في كم الفستان المطرز، بل في الفستان الذي مزقه الشوك وهي ذاهبة إلى حبيبها مساء، ستجد ظل حبيب دون أن تسميه السيدة فيروز. لتسمع فيروز تحتاج الكثير من الذكاء العاطفي لتكتشف أي حالة عشق تعيشها فيروز في تلك الأغنية. غاضبة على حبيبها أم راضية؟ لائمة أم فاترة؟
الانتظار قدر فيروز
الحب في أغاني فيروز كثير، مثلما الانتظار فيها كثير. الزمن ممتد في حالة الحب. تأوهات كثيرة، فيها كبرياء ودموع لا يراها الحبيب. مسافات طويلة تفصل الحبيب عن الحبيبة فكأنه زمن الحرب، الانتظار يصبح قدرًا وعملية سرية مثل الكفاح المسلح تماماً.
ومثل اللي بريشاتو مخبى سرار سرار
قلي على الرمان غطيت دحكاتي
وبعيون الدبلان شفت الهوى باين
شو قلي شو قلي عينان المحبوب
ما بدك تقلي ابعتيلو مكتوب
فيروز العابرة للزمن
تغير الزمن، من زمن عاصي الرحباني إلى زمن زياد الرحباني وتغيرت المكاتيب الزرقاء إلى مكاتيب ديجيتال، وتغير الحب المنتظر تحت القرميد إلى حب منتظر خلف زر الكيبورد وشاشات الهواتف المحمولة. تغيرت لحظة الانتظار من لحظة الانتظار في الحرب إلى لحظة الانتظار في الحرب الافتراضية.
لكن الصوت، صوت فيروز بقي على حاله لم يتغير، مهما قال النقاد عن حبالها الصوتية. صوت الحب، صوت فيروز ينشد لنا جيلا بعد جيل.
فيروز هي أجمل ما حدث لنا كعرب، رافقت أجدادنا وآباءنا وترافقنا الآن وسترافق أبناءنا غداً وأحفادنا بعد غد، رغم الرداءة الفنية التي اجتاحت سماء الفن وكرستها مواقع التواصل وبرامج المسابقات الفنية.
أما الانتظار الذي ورثناه جيلاً عن جيل فما زال يمتد فينا حتى الآن.
يمتد فينا مثل المكاتيب التي تتأخر في الوصول وتغني لها السيدة الفيروز.
كتبنا وما كتبنا يا خسارة ما كتبنا
كتبنا ميت مكتوب ولهلا ما جاوبنا
أحب كل ما في فيروز، عدى الانتظار الذي تتركه، وعلمتنا إياه غصباً وكأن ثقافة الانتظار هي تراث عربي، وكأن الصبر قدرهم… بل قدرهن.