هو فنّ التعبير على الجدران الصامتة، والتمرّد على قُبح المدن و”غيتوهاتها” كما يصفه البعض الآخر، والذي أصبح كناية عن هوية فنيّة جديدة وتعبير ثقافي وسياسي ينتشر في شوارع تونس بُعيد الثورة.
طوال سنوات الانتقال الديمقراطي، شهد الغرافيتي نقلة من مجرّد خربشات على الجدران تروّج لشعارات رياضية واجتماعية أو مقولات لزعماء ثوريّين من أمثال تشي غيفارا، إلى حقْل واسع من التوّجهات والأفكار تُترجم سقْف الحريّات التي تتنفّسها شوارع تونس وشبابها.
بدايات تتحدّى ممنوعات السلطة
أصبح الغرافيتي رسالة الجيل الجديد للتّعبير عن نفسه، ولوحة يمتزج فيها صوت الشارع برؤية فنيّة مغمّسة بالألوان والعبارات والرسوم.
طوال السنوات التي أعقبت الثورة سنة 2011، التحفت الحيطان والساحات وحتّى الجسور بفسيفساء متنوّعة من اللوحات، أضحت بمثابة هوية بصريّة مُميّزة لشوارع تونس، ومُعبّرة عن تطلّعات جيل جديد ونزْعته لإثبات ذاته ونحْت بصْمته ببخّاخاتِ الألوان والخطوط المُتنوّعة.
لم تكن بدايات ترسّخ هذا النمط الفنّي هيّنة، مع ظهور تمثّلاته الأولى عبْر ثقافة “الهيب هوب” قبل الثورة، حيث تجسّدت على شكل عبارات ورسومات كُتبتْ على عجَلٍ عبْر البخّاخات على الحيطان، وفي غفْلةٍ من رقابة عناصر الشرطة.
ورغم أنّ التجارب الأولى للغرافيتي لم تكن كلّها حاملة لنفَس سياسيٍّ أو تعابيرَ أيديولوجيّة، إلا أنّها كانت بمثابة صرْخة احتجاجٍ ومبادرةٍ للتمرّد والتعبير من بين عتمة الديكتاتوريّة.
تلقّفتْ جماعاتُ “الألتراس” والمشجّعون بمدرّجاتِ الملاعب هذا الأسلوب الفنيّ، ووظّفوه لصياغة الشعارات المُعبّرة عن دعْم فرقهم، من خلال رسومات تحدّت ممنوعاتِ السلطة والرقابة، وعكستْ معاني سياسية مقنّعة تحت العبارات الرياضية.
بُعيد الثورة تنوّعت سياقات الغرافيتي وتوجُّهاته وفلسفاته، ما بين البُعد الضمني والرسالة الفكرية التي تحْملها اللوحة وبين الرؤية الجمالية، فتعدّدتْ التجارب المغمّسة بالبساطة والمباشرة كما يعكسه أسلوب مجموعة “زواولة” وتعني الفقراء بالعامية التونسية – وهم مجموعة من الناشطين في فن الغرافيتي والذي تخصصوا في طباعة وكتابة شعارات على الحيطان ذات منحى سياسي واجتماعي، وبين التركيز على التناسق والألوان التي ينْتهجها رسّامون آخرون على غرار “أوما”.
بين الجماليات والسياسة
في حديثه لبوابة تونس عن خصوصيات هذا الفن، يرى رسّام الغرافيتي ياسين دينو عضو مجموعة “الدبو” وتعني بالعامية التونسية المخزن – أنّ الأسلوب الفنيّ والتعبيريّ يختلف بحسب نزعة الفنّان وفلسفته، فهناك من يتبنّى أسلوب المباشرة في التعبير عن الفكرة بشكل بسيط يُركّز على الشعارات والكتابة المرافقة للرسم، فيما يهتم آخرون بالعمْق الجمالي الذي يعكس المضمون برمزيته ووجهة نظر صاحبه.
“لا يشترط في رسومات الغرافيتي توثيق مواقف سياسيّة أو أيديولوجيّة، فكثير من الرسّامين سواء من الأفراد أو المجموعات يقومون اليوم برسم لوحات جدارية ضمْن مفهوم إبداعي خالص وبعيدا عن أي مواقف سياسية أو اجتماعية، وتتلخّص اهتماماتهم بقضايا هوياتية وثقافية بحتة”، يضيف ياسين تعليقا على ارتباط هذا الأسلوب بالشعارات والتعبيرات السياسية.
ياسين اعتبر أنّ علاقة الغرافيتي بالأفكار السياسية ليس بالضرورة “أمرا حتميا”، باعتبار أنّ توظيف هذا الفنّ للتسويق سياسيا يُعتبر حديث العهد قياسا إلى أصوله وفلسفته التي كانت تعكس محاولة إثبات الوجود والرغبة في “غزو المدينة”، وإعادة تشكيل ملامح الشوارع والفضاءات العامة.
لا يمكن إنكار التأثيرات الإيديولوجية على تعبيرات الغرافيتي، خاصة على مستوى تجسيم بعض الرموز الثورية الشهيرة وشعاراتها ومقولاتها، إلى جانب أفكار أخرى تتعلّق بالقمع الأمني والتمرّد على السلطة، لكنّ هذه التجارب تظل بحسب محدّثنا “ضمن قالب فنيّ يحكي الحكاية ويُعبّر عن حدث”.
تتنوّع أساليب الغرافيتي ومدارسه في تونس كما في العالم، فبينما يُفضّل البعض مزْج الرسومات البسيطة بالعبارات التي تعرف “بالتاغ”، يميل آخرون إلى إنجاز لوحات كبرى تجمع ما بين الألوان والبخّاخ، فيما تستلهم مدرسة ثالثة من تجليّات الخطّ العربيّ كأسلوبٍ لتزويق الرسومات، وصياغة فكرتها وملامحها الجمالية.
يستمد الغرافتي لمْستَه الأساسيّة من البخّاخ بألوانه المُميّزة، وما يُوفّره من إمكانية لملء المساحة، لكنّ الاعتبارات الجمالية بدأت تتّجه إلى التطوير عبْر اعتماد التنويع في الدرجات اللونية وتوظيف الألوان الزيتية، بحسب ياسين دينو بما يخلق مزيدا من التنوع والإثراء ضمْن حقْل فنّيٍّ ما يزال بانتظار الاعتراف به وتأطيره أكاديميا.