ثقافة

فنانو تونس المُهاجرون بين نجاح سينمائي وغياب مسرحي.. اختيار أم اضطرار؟

“الأداء السينمائي يختلف عن الأداء المسرحي مواصفات ومناهج وتقنية”.. صحفيون وأكاديميون يُؤصّلون الفوارق بين عالمَي التمثيل المسرحي والتلفزيوني
صابر بن عامر
للسينما والدراما العربية أدواتها وآلياتها ونجومها، عكس المسرح الذي يحتكم أساسا على التكوين واستمراره، والتجربة وتعدّدها، فالمُراكمة وتنوّعها.
فنانو تونس المهاجرون والمقيمون، خاصة بمصر، غالبيتّهم -إن لم نقل جلّهم- حقّقوا نجاحهم الدرامي والسينمائي بعيدا عن عَرَق خشبات المسارح وتدريباتها الطويلة والمضنية.
فهند صبري وعائشة بن أحمد وظافر العابدين، وبنسب أقلّ فريال قراجة، سناء كسوس (كلتيهما يوسف حاليا) ونجيب بلحسن حقّقوا النجاح والتميّز في الدراما العربية، دون خوض تجارب مسرحية تُذكر، باستثناء درة زروق التي كانت لها تجارب مسرحية محلية وعربية من خلال “مجنون” توفيق الجبالي 2001، و”لنقار” (محطة القطار) للشاذلي العرفاوي 2006، والمسرحية المصرية الكوميدية “حتى لا يطير الدكان” لمحمد أوتاكا 2023.
فلماذا نجح غير المسرحيين من فناني تونس المهاجرين في الدراما والسينما العربية؟ وهل للسينما والدراما العربية مقومات أخرى بعيدا عن التكوين المسرحي؟ سؤال طرحته بوابة تونس على بعض الصحفيين والأكاديميين التونسيين، فكان هذا التقرير.
سيماء المزوغي: التكيّف والجرأة ساهمت في نجاح الممثل التونسي عربيا
في هذا الخصوص تقول الصحفية سيماء المزوغي: “أعتقد أنّ نجاح الفنانين والفنانات التونسيين والتونسيات المهاجرين والمهاجرات في الدراما والسينما العربية، خصوصا المصرية، يعود إلى عدة عوامل تتجاوز التكوين المسرحي”.
وتعدّد المزوغي العوامل -وفق تقديرها- كالتالي: أولا، تميّزهم بالاحترافية والقدرة الكبيرة على التأقلم مع ثقافات وأساليب فنية مختلفة جعلتهم يبرزون في أدوار متنوّعة. ثانيا، إتقانهم اللهجة المصرية التي تُعتبر بوابة رئيسية للقبول الجماهيري في مصر، وهو ما ساهم بشكل كبير في اندماجهم في السوق.
ثالثا، يمتلك هؤلاء الفنانون جاذبية بصرية وحضورا قويّا على الشاشة، ممّا يُسهل تفاعل الجمهور العربي معهم.
رابعا، السينما والدراما العربية تركّزان على عناصر تجارية وتسويقية، مثل الكاريزما والقدرة على جذب المُشاهدين، أكثر من الاعتماد الصارم على الخلفية المسرحية.
خامسا، تميّزهم بالتكوين الأكاديمي أو الفني المتنوّع الذي أضاف لهم بُعدا ثقافيا وخبرة أعمق وأشمل.
سادسا، العلاقات المهنية والقدرة على خلق شبكة من الاتصالات في الوسط الفني العربي لعبت دورا مهما في نجاحهم، وفق تحليلها.
وتُشدّد الصحفية التونسية على أنّ المسرح كان وما يزال مدرسة الفنون جميعها، ومع ذلك، تُؤكّد أنّ نجاحهم يُثبت أنّ السينما والدراما تحتاج إلى مقومات أخرى على غرار التكيّف، الجرأة، والتطوّر المستمرّ في الأداء بما يتناسب مع متطلبات السوق والجمهور.
وتخلص سيماء المزوغي إلى أنّ نجاح هؤلاء الفنانين يؤكّد أيضا أنّ الفنان التونسي، متى وُجدت له الإمكانيات والدعم اللازم، قادر على التألق في أيّ مكان.
وتذكر في ذلك أمثلة كثيرة لفنانين تونسيين برعوا عالميا في مجالات متعدّدة، سواء في التمثيل، الإخراج، أو الإنتاج، وهو ما يعكس -وفق تقديرها- تأصّل المواهب التونسية، وقدرتها على المزج بين الكفاءة الفنية والثقافة الموسوعية، ما يجعلها قادرة على الإبداع والتفوّق حتى في بيئات مختلفة عن بيئتها الأصلية.
أنور الشعّافي: عكس المسرح.. الكاميرا تتطلّب وجها يعبّر بصدق دون مبالغة
في المقابل يرى الأكاديمي والمخرج المسرحي أنور الشعّافي أنّ الأداء السينمائي يختلف عن الأداء المسرحي مواصفاتا ومناهج وتقنية.
ويقول: “الكاميرا تتطلّب وجها يعبّر بصدق دون مبالغة، خاصة في “المشاهد المكبّرة” close up، والسينما دائمة البحث عن الوجوه التي لم تألفها عين المشاهد، لذلك ينجح أحيانا ممثلون وضعتهم الصدفة أمام الكاميرا ولا ينجح مسرحيون قضوا حياتهم على الركح”.
ويسترسل موضّحا: لأجل ذلك كله وجد معهد “أستوديو الممثل” actors studio الذي يعلّم خصوصية الأداء السينمائي، وقد تخرّج منه أبرز ممثلي هوليوود على غرار: روبار دي نيرو، مارلون براندو، بول نيومان وغيرهم”.
أسماء الدريسي: التمثيل أمام الكاميرا يفي بمعايير أخرى غير المتاحة على خشبة المسرح
بالمثل تذهب الصحفية التونسية الناطقة بالفرنسية أسماء الدراسي إلى ما ذهب إليه أنور الشعّافي، فتقول: “بالطبع، التمثيل أمام الكاميرا يفي بمعايير أخرى غير تلك الموجودة على خشبة المسرح، حيث يواجه المتفرّج في المسرح مشهدا يُعادل لقطة واسعة، الأمر الذي يتطلّب التركيز على الجسد والفضاء”.
“أما في السينما والتلفزيون، فتنوّع اللقطات يمتدّ إلى اللقطات القريبة، ما يفرض على الممثل لعبة تأخذ في الاعتبار الإطار الذي هو فيه”، وفق تصريح الدريسي لبوابة تونس.
وهي ترى في الممثل الذي تدرّب على المسرح، فاقد لأدواته التعبيرية أمام الكاميرا، إذا لم يكن موجّها من قبل مخرج عارف بالحدود المفروضة في عالمَي الدراما التلفزيونية والسينما.
كما يُتيح التدريب القويّ أمام الكاميرا -وفق الدريسي- إتقانا كبيرا للدور والشخصية، ما يجعل التمثيل أمامها ذا مصداقية وفعاليّة، وفي غياب هذه التجربة تظلّ اللعبة منقوصة والأداء سطحيا.
وتضرب الدريسي في ذلك أمثلة على قُدرة بعضهم على التميّز في المجالين على غرار الراحل فتحي الهداوي، وكامل التواتي والشاذلي العرفاوي.
فيما تعزو نجاح هند صبري وظافر العابدين في أدائهما السينمائي والتلفزيوني بعيدا عن التكوين المسرحي إلى الذكاء أولا، والمثابرة ثانيا، فحسن استغلالهما الفرص ثالثا.
سفيان العرفاوي: للنجاح السينمائي عوامل أخرى بعيدا عن الموهبة التمثيليّة!
من جانبه يُؤصّل الصحفي والإعلامي بالإذاعة الثقافية سفيان العرفاوي الفوارق بين التمثيل الدرامي والسينمائي والأداء المسرحي، فيقول في تصريحه لبوابة تونس: “أعتقد أنّ الأمر يعود إلى عامل أوّلي، هو الاختلاف القطاعي في مهن التمثيل والدراما، حيث يتطلّب الأداء المسرحي جملة من الملكات الفنية، التي على الممثل اكتسابها بصفة قبليّة، بمران ودربة وصبر، في الاشتغال على “أداته” الرئيسية، ألا وهي الجسد ومستطاعه الجسماني والعاطفي والعقلي، الذي “يدرّبه” لساعة الالتحام المباشر مع الجمهور في زمن العرض”.
ويسترسل: “وعليه وجب أن يكون في حالة استنفار فني وعضلي وتعبيري متواصل، في حين أنّ الأداء أمام الكاميرا لا يستدعي كل هذه الملكات”.
ويعزو ذلك إلى الخصوصية التقنية للتصوير السينمائي والتلفزيوني، شارحا: “يصوّر الفيلم أجزاء مفصّلة حسب الديكورات، إلى جانب مرونة عملية التصوير في حدّ ذاتها، فضلا عن إمكانيات واسعة لإعادة ذلك المشهد أكثر من مرة للوصول إلى حالة الإتقان والصدق الفني، كما تحتكم لقطة الدراما التلفزيونية والسينمائية للعديد من المكوّنات الفنية الجانبية كالإضاءة والموسيقى والديكور والمونتاج وغيرها..”.
الأمر الذي يُيسّر عملية التمثيل ويجعلها تتطلّب حدّا من الموهبة وذكاءً في التأقلم مع السياقات التقنية الخاصة بالسينما، وفق تقدير العرفاوي.
كما يرى الإعلامي التونسي في الموهبة العالية -لمن سبق ذكرهم- وشعورهم برهان حتمية النجاح، ما يخلق لديهم روحا كبيرة من التحدّي، والذكاء في الانتماء إلى هذه الصناعة الضخمة.
ومع ذلك يُقرّ سفيان العرفاوي بأنّ اللعبة السينمائية عسيرة ومريرة، حيث حفل التاريخ بمن تعثّر وسقط، بل ومن انقرض من المشهد الدرامي العربي، أصلا، ولم يبق إلّا أصحاب الموهبة، ومن يمتلكون ذكاءً خارقا في التأقلم مع خصوصيات هذه الصناعة المشهديّة، والإحساس المتجدّد بضرورة التشبّث بأنوار النجاح الفني والجماهيري بكل ما يقتضيه ذلك من اشتغال على الذات وتجديد في آليات الأداء ومراهنة على مواصلة ذلك الطريق المليء نورا وبهرجا وإشعاعا وشهرة، وفق تعبيره.
سهير اللحياني: مقاييس النجاح عند العرب تختلف عمّا هي عليه عند الغرب
في مقابل كلّ ما تقدّم، تُشدّد سهير اللحياني الأستاذة الجامعية والباحثة في علوم الإعلام والاتصال على أهمية التكوين في الفنون، سواء كان أكاديميا أو ميدانيا، وهي ترى فيهما إيجابية قصوى لتطوير القدرات وصقل المواهب.
لكنها -وبالتوازي- لا ترى فيهما شرطا لتحقيق النجومية في الدراما التلفزيونية أو السينما، مُفسّرة طرحها بالقول: “ذلك لأنّ الواقع في العالم العربي يختلف جذريا عمّا هو معمول به في الغرب، نظرا إلى اختلاف المقاييس والمعايير”.
وتسترسل الأستاذة الجامعية: “فما نراه نجاحا عندنا قد لا يحظى بالقدر ذاته من الأهمية عند الغرب، لذلك، تبقى إنتاجاتنا الفنية، من سينما ومسرح، حبيسة الحدود الضيّقة، وحتى إذا ما وصلت إلى محافل دولية، فهي لا تترك أثرا يُذكر، باستثناءات بسيطة”.
ومع ذلك تقرّ الباحثة في علوم الإعلام والاتصال بأهمية التكوين المسرحي، الذي تراه في نظرها، يظل عاملا مهما بالنسبة إلى الممثل، وكلما تمّ الاستخفاف بهذا العامل، زاد تدهور الأعمال الفنية ومحتواها.
وهو ما تعيبه على بعض الفاعلين في القطاعين السينمائي والتلفزيوني سواء بتونس أو الوطن العربي، وسقوطهم في الاستسهال وغياب العمق الفكري والعملي، رغم بعض الاستثناءات، الأمر الذي عجّل هجرة الجمهور نحو منصات أخرى، باحثا فيها عن محتوى يُرضي تطلّعاته، سيما مع سهولة النفاذ اليوم إلى كل التجارب العالمية والإطلاع عليها، وفق تقديرها.