رأي

فشل مشروع الاندماج… ماكرون و”الترنسفير” الفرنسي للأزمة

بقلم: فوزي الصدقاوي – باحث في التاريخ المعاصر


استباقاً لتقديم مشروع قانون يستهدف مواجهة ما يسمى بـ“الانفصالية الإسلامية” في فرنسا، بحجة “تطويق الإسلام الراديكالي الذي يؤدي إلى الانفصال عن الجمهورية” أمام مجلس الوزراء الفرنسي في 9 ديسمبر2020 ثم مناقشة فصوله أمام البرلمان في النصف الأول من عام 2021 أي قبل الانتخابات الرئاسية عام 2022، صرح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الجمعة 2 أكتوبر قائلاً  إن الإسلام في العالم يعيش أزمة حتى في الدول التي تعتنق فيها الأغلبية هذا الدين.-      واستشهد ماكرون بتونس مثالاً على ما يسميه  “أزمة الدين الإسلامي” قائلاً إن تونس لم تعرف قبل  30 عاما “تطرفاً كالذي تشهده السنين القليلة الماضية مع صعود الإسلام السياسي”.

معتقلو 25 جويلية

خطاب إيمانويل ماكرون يستعدي عدة ملاحظات:

·     مثل هذه التصريحات العلنية لا تخرج، حقيقة عن منطق خطاب المناورات، وهو نوع من الخطاب لا يصدر عن سياسيين كبار بحجم ما كان عليه قادة فرنسا التاريخيين (الجنرال دوغول مثلاً)، وهو خطاب في مستوى آخر يكيل صاحبه بمكياله ويعيّره بمعياره. إذ يغلب على خطاب المناورات عادة، الحركة خارج مناطق النزاع، وايهام الخصم بالجاهزية والقوة بينما هو مشغول بالبحث في الوقت الضيّق، عن الملاجئ الآمنة.

هذه المناورات تعتمد على الآليات الخطابية التالية:   ·العمل على الهشاشة النفسية للمتلقين الفرنسيين عبر صناعة الخوف وتنمية الإدراكات العصبية والنفسية لديهم ثم توجيهها بالاستثمار في الإسلاموفوبيا وهو ما يعني شحن مناقشات مواد مشروع القانون بأقدار عالية من التشنّج والتعبئة النفسية المشحونة مسبقاً بأنماط من صور الإسلام المصطنعة في ”المخابر الإعلامية”، بما يُنشئ، بناءً عليه، حواجز سميكة نفسية وذهنية تعطّل أي إمكانية لمناقشات متحصّنة بعقلانية علمية وبأقدار من التبصّر السياسي والاجتماعي والثقافي ذات علاقة بموضوع النقاش، في آفاقه المحلية والدولية.·ترحيل مركز النقاش من المجال الفرنسي المحلي (باعتباره مشروع قانون فرنسي) إلى مجال الجغرافيا السياسية للحالة الإسلامية المتمددة وهي جغرافيا سياسية تطال اليوم جميع قارات العالم حيث ينتشر المسلمون إقامة ولجوءا، فضلاً عن المراكز التقليدية التاريخية للجغرافيا السياسية الإسلامية. إن هذا ”الترنسفير”  جزء من مناورات الخطاب، وهو يعني استدعاء ”العالم غير الإسلامي’’ للانخراط في تحالف موضوعي وبراغماتي لمساندة أصحاب مشروع القانون من الفرنسيين المحليين والمدافعين عنه (من الأوروبيين أو غير الأوروبيين من غير المسلمين- أو الحلفاء التقليديين من العرب المسلمين..)  ضد معارضيهم المحليين (مسلمين فرنسيين، يساريين فرنسيين، تقدميين فرنسيين، وحقوقيين فرنسيّين). ما يعني أن تدويل موضوع نقاش، هو في واقع الأمر فرنسي المنشأ والمآل.·أن ما أسماه ماكرون بأزمة الديانة الإسلامية في العالم، واعتباره  صعود ”الإسلام السياسي” في تونس خلال السنين القليلة الأخيرة، يشكّل تعبيراً عنها، وأن تونس لم تكن شهدت تطرفاً مثيلاً له منذ 30 عاماً. كان تعبيراً عن انخراط فرنسا العلني في المحور السعودي الإماراتي المصري، في هدم تجربة بناء الديمقراطية في العالم العربي، فضلاً عن كون مثل هذا التصريح يجدد  ترانسفير (نقل) الإسلاموفوبيا إلى تونس بصورة غير مبررة لاسيما بعد أن أجمع التونسيون من خلال التصويت على الدستور التونسي على حسم القضايا الخلافية الإيديولوجية والمجتمعية، وترك تأويل نصوصه بالتماهي مع تجربة الانتقال الديمقراطي ومخاضها وتنزيله بهضم معناه واستبطان مبناه في المستقبل المنظور.    

أمّا الملاحظات المتعلّقة بمضمون خطاب ماكرون فيمكن استجلاؤها من المسكوت ([1]) عنه :

·      أن هذا القانون يأتي في إطار حملة انتخابية مبكرة لحشد اليمين واليمين المتطرف حوله في الداخل الفرنسي كخزان انتخابي مع حشد الدعم السياسي والإعلامي من الداخل الأوروبي دون الغفلة عن الاستنصار بالحلفاء الدوليين.

·      ”الإسلاموفوبيا” مادة دسمة ‘’للانعكاس الشرطي” لجرّ الأفراد والفئات والدول إلى معارك عبثية  يحشد تحت ألويتها معسكرات كثيرة تجمع اليوم المحور الصهيوني وأعضاده وحلفاءه ومطبّعين من العرب والأفارقة، وماكرون يحتاج إلى مثل هذه التعبئة منذ الآن من أجل صراعها مع تركيا من جهة ومن أجل انتخابات سنة 2022.

·      أن سياسات الاندماج التي عجزت عن ترويض أربعة أجيال من أبناء المستعمرات القديمة خاصة منها مستعمرات شمال إفريقيا، تحوّلت اليوم إلى قوة إحتجاجية حملت معها مظالم بلدانها الأصلية وذاكرة جماعية مشبعة بالمآسي وصور وحكايا الفظاعات والانتهاكات الجسيمة  زمن الاستعمار وخلال معارك التحرير، وقد شكّلت هذه الأجيال أمواج عارمة من القوى الاحتجاجية الصاخبة المعسكرة في الضواحي والمدن الريفية وشبه الحضرية، ظهرت قوّتها بمناسبة احتجاجات السترات الصفراء  التي اندلعت في  نوفمبر سنة 2018 .

·      أن السياسات الاستعمارية الفرنسية تعاملت مع ظواهر الإسلام في عالم ما وراء البحار  باحتقار  وازدراء وحرصت على توظيف تلك المظاهر وتلك المفاهيم عن الإسلام بتعدد مدارسه وتشكّلاته الاجتماعية والمذهبية والطرقية وتوجهاته العقائدية والفقهية دون أن تتمكن من تعطيل قدراته نهائياً وظلت وظائفه الاحتجاجية غير قابلة للتعطيل، لا سيما وأن وعي الأجيال المتعاقبة لم يكفّ عن مراقبة قصف العواصم العربية وانتشال جثامين الضحايا من تحت الأنقاض.

·      لم تدرك فرنسا بعد أن تاريخ التجربة الاستعمارية الطويلة التي قادتها ضد شعوب عالم ما وراء البحار، هي شبيهة الزلازل لا تلبث موجاتها أن ترتد عكسياً باتجاه مركزها. وقد ارتدت أجيال المستعمرات المقيمة وانتفضت، ولا تزال موجات ارتدادية أخرى متعاقبة قادمة عبر قوارب الموت، دون توقف.

·      الديانة الإسلامية ليست في أزمة، بل الصواب أنّها تخرج من معزلها باتجاه قارات العالم، وتتزايد مساجدها ومراكزها وتتطوّر ديموغرافيتها ويزداد عدد قيادات الرأي فيها، ويحتل أبناؤها مواقع متقدمة في المجتمعات الراقية وفي المراكز العلمية الدقيقة، لكنّهم أيضا وقود كل الاحتجاجات التي يشهدها العالم المتمدن إن انفجرت إحدى أزماته الاقتصادية أوالمجتمعية (حياة السود مهمة). إن الديانة الإسلامية في ظل مجمل الموجات الارتدادية لأزمة تاريخ الامبرياليات القديمة والمعاصرة وتلك ”الدول الوطنية الناشئة” من رحم الاستعمار القديم والتي لم تكن لتنشأ بعد (سيكس بيكو) إلا لحماية ”دولة إسرائيل’’، كان الإسلام محضنة حقيقية للحركات الاحتجاجية الاجتماعية والسياسية في العالم العربي (المستعمرات القديمة) وفي أوروبا وفرنسا على وجه الخصوص.

·      أما الإسلام المأزوم حقا، فهو نسخة الاستخبارات الأمريكية، الحاملة لمشروع ”إدارة التوحّش من النكاية إلى التمكين” تلك النسخة من الإسلام التي تبرّأ منها المسلمون ودول العالم الاسلامي  قبل غيرهم،  فخلق إسلام التوحّش، ظلّ حرفة إمبريالية، تعلم الدوائر  الاستعمارية قبل غيرها، جيّداً من أجهض الحركة الإصلاحية التونسية صاحبة الإسلام المستنيرة من الجامع الأعظم نهاية القرن 19 و الثلث الأول من القرن العشرين، مركز إشعاعها الحضاري([2]).


[1] – أنـظر الأرقام التالية وما تمثله من مؤشرات عالية على مستوى العنف الذي تمدد نشاطه طوال القرن العشرين:

·        خلال سنوات التسعين أودت الحروب بـحياة 90%  من غير المقاتلين، وأن غالب تلك الحروب كانت حروبا أهلية.

·      يقدر عدد القتلى خلال حروب القرن العشرين بـ 190 مليون قتيل.

·      مع حرب الخليج في سنة 1991 و خلال الإثنى عشرشهرا التالية و بمناسبة الحصار الإقتصادي المضروب على العراق

·      توفي بين 350000 و50000 طفل بسبب سوء التغذية والمياه غير الصالحة للشرب و نقص الرعاية الصحية بسبب الدمار و الفوضى.

·      حرب البلقان انتهت بمعاهدة دايتون للسلام عام 1995 و قد سجلت أعلى جرائم الإبادة الجماعية ما شهدته سريبرينيتسا حيث وصل عدد الضحايا إلى ثمانية آلاف و732. اضافة إلى أربعة آلاف و500  شخص ما زالوا في عداد المفقودين وقد هزت إلى اليوم مجزرة سريبرينتسا ا مشاعر الملايين في العالم.                           

[2] – وسم الشيخ الطاهر بن عاشور كتابه في تفسير القرآن الكريم، بـ ” التحرير والتنوير” وهما إسمان يتلازمان ويحالان إلى وظائف العقل حصرا.