رأي

فرنسا-المغرب… أزمة خارج دائرة الصمت

محمد بشير ساسي

قبل ستّ سنوات قدّم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نفسه أثناء حملته الانتخابية الأولى، على أنّه رجل المرحلة صاحب التوجّهات البعيدة عن الخطاب السياسي الكلاسيكي، فهدأت خواطر الرأي العام في المغرب العربي.
وحتى يظهر ماكرون على قدر وعوده، عمل منذ دخوله قصر الإليزيه على إيجاد مقاربة للسياسة الخارجية مختلفة مقارنة بسابقيه الّذين ضاعفوا على مرّ السنين أخطاء باريس، وتحديدا في علاقتها بالجزائر والمغرب وتونس كما هو الحال مع عدّة دول إفريقية.

معادلة اليمين 

لكن في خضم التركيز داخل فرنسا على معادلة اليمين المتطرّف بخصوص ملف الهجرة، تغيّرت اللغة الودية مع دول المغرب العربي لتنصاع الحكومة الفرنسية لضغوط الداخل، وتتراجع أكثر من خطوة إلى الوراء.

ثم أطلّت قضية التأشيرات برأسها لتفتح باب “الأزمة الصامتة”، بين فرنسا من جهة والمملكة المغربية والجزائر وتونس من جهة ثانية، على خلفية أنّ هذه الدول لا تقبل باستعادة رعايا لا ترغب فيهم فرنسا ولا يمكنها إبقاؤهم على أراضيها، وفق الرواية الرسمية للحكومة الفرنسية.

وربما ليس من باب المصادفة أن يأتي إعلان خفض التأشيرات، في اليوم الّذي كانت تخطّط فيه المرشّحة للرئاسة اليمينية المتطرّفة مارين لوبن عرض مسودة مشروع الاستفتاء بشأن الهجرة، لا سيما أنّ الحملة التمهيدية للانتخابات الرئاسية الماضية، جعلت هذا الموضوع في الصدارة في الأشهر الأخيرة.

وما ساهم في تركيز النقاش السياسي حول هذه المسائل، بروز الشخصية المثيرة للجدل “إريك زمور”؛ المترشّح للسباق الانتخابي على الرئاسة الذي يتبنّى نظرية “الاستبدال الكبير” إحدى النظريات التي تغذيها أدبيات المجموعات المؤمنة بتفوّق “العرق الأبيض”، وتدعو إلى ترحيل المهاجرين كافّة المقيمين بشكل غير شرعي على الأراضي الفرنسية إلى بلدانهم الأم.

جفاء دبلوماسي 

كما زادت حدّة الأزمة بين باريس والرباط وإنّه بعد مرور نحو عام على تلك الإجراءات، خُفّفت القيود المفروضة على التونسيين والجزائريين، الأمر الذي أثار غضبا متصاعدا في المغرب، ووصل إلى حدّ المطالبة بمقاطعة المنتجات الفرنسية، وتنظيم وقفات احتجاجية أمام مقر بعثة الاتّحاد الأوروبي بالرباط.

وكشف تقرير صادر عن الهيئة العامة للأجانب في فرنسا، أنّ القُنصليات الفرنسية في المغرب أصدرت 69.408 تأشيرة فقط عام 2021 مقارنة بـ342.262 تأشيرة عام 2019، و98 ألف تأشيرة عام 2020، على الرغم من تقييد السفر الدولي على خلفية أزمة كورونا الوبائية.

أمام هذا المشهد، تساءل كثيرون عن سر الجفاء الدبلوماسي الذي خيّم على علاقة البلدين، رغم أنّ فرنسا تدرك أنّ المغرب هو حليفها الأساس بمنطقة المغرب العربي، وإلى حدّ ما بإفريقيا، ليس فقط من الناحية الاقتصادية والتجارية بل أيضا من الناحية الجيوستراتيجية الصرفة.

كما أنّ فرنسا تعلم أنّ لغتها وثقافتها تمرّان حتما عبر البوابة المغربية، ليس فقط بحكم الإرث التاريخي “المشترك”، ولكن أيضا بحكم تجذّر الثقافة واللغة ذاتهما في ذهنية النخب الحاكمة ومعظم المسؤولين الكبار بالمغرب كما هو الحال في الجزائر وتونس.

رغم أنّ فرنسا أُجبرت على الخروج من مستعمراتها العربية بشمال إفريقيا في الستينات، فإنّ العلاقة استمرَّت بين الطرفين لأسباب شتى، مثل المصالح السياسية والاقتصادية المتبادلة، وكذلك الأثر الثقافي الفرنسي الذي تركته سنوات الاستعمار الطويلة.

علاقة متشابكة

لقد حاولت فرنسا الإبقاء على مسافات آمنة من الأنظمة السياسية التي تولَّت الحكم بعد نهاية الاستعمار، وأصرَّت أحيانا على تجنُّب مشكلات من شأنها التسبُّب في توتّر العلاقات بين باريس والعواصم المغاربية، وإن فرضت الضرورة التاريخية وقوع خلافات في عدد من القضايا، استغلّها صُنَّاع القرار السياسي في فرنسا على تغيير نبرتهم ومن أجل إعادة رسم التراتبية بين باريس ومستعمراتها السابقة.

في الواقع لم تصل الأزمة الفرنسية المغربية إلى درجة يمكن القول بإمكانية حدوث القطيعة، بل إنّ ذلك من باب المحال في السياسة والإدارة بالمغرب، وكذلك بالنسبة إلى فرنسا، إذ تجمعهما علاقة متشابكة، لكن تضرّر العلاقات بين الفينة والأخرى يُذكي الوعي مجتمعيا في المغرب ويوجّهه ضدّ المنافع التي تجنيها فرنسا منه، وضدّ وضعية الامتياز التي تنالها في الاقتصاد والثقافة، وغير ذلك من أشكال الحضور على حساب أطراف ودول أخرى يمكن للمغرب أن يحقّق معها علاقات يربح فيها الجميع.

فقدان المكانة 

وحسب مراقبين، لا تُعَدُّ أزمة التأشيرات بين المغرب وفرنسا سوى أحد التداعيات الجليّة لأزمة صامتة بين البلدين لها أسباب اقتصادية أيضا، وقد استشعرت باريس أنّها على وشك فقدان حديقة خلفية أخرى في شمال إفريقيا.

ورغم استخدام الفرنسيين أوراق الضغط كلها التي بين أيديهم، لإجبار الرباط على الاحتفاظ لهم بالامتيازات الاقتصادية التفضيلية في المملكة، غير أنّ الأخيرة فقدت الكثير من مكانتها بوصفها أبرز الشركاء التجاريين للرباط لصالح إسبانيا وألمانيا وقبل ذلك الولايات المتّحدة الأمريكية.

 ودخلت الصين بدورها على خط منافسة القوى الإقليمية والدولية في نفوذها بالمغرب العربي، فبعد احتلالها اليوم المركز الثاني بقائمة شركاء الجزائر التجاريين، باتت قريبة من نيل صفقة مشروع القطار السريع المرتقب بين مدينتي مراكش وأكادير، بعدما قدّمت بكين عرضا منخفض التكلفة بحوالي 50% عن عرض باريس.

حلفاء جدد 

على الصعيد العسكري، فبعد الأزمة التي طبعت علاقة فرنسا بكلٍّ من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وأستراليا إثر انسحاب الأخيرة من صفقة الغواصات التي وقَّعتها مع باريس سابقا، أتت الخسارة الأكبر والأهم لفرنسا إثر إخفاقها في الحرب على الجماعات الإسلامية بالسّاحل الإفريقي، وضلوع باريس في المشهد الليبي بصورة لم تُرضِ الجزائر والرباط على السواء.

يأتي كل ذلك في إطار تراجع فرنسا عالميا، واستبعادها من التحالف الأمريكي-البريطاني-الأسترالي لمواجهة الصين بمنطقة المحيط الهادئ، وهو تراجع دفع دول المغرب المغربي إلى الشعور بالثقة في قدرتهم على إيجاد حلفاء جدد من القوى الكبرى الأثقل اليوم، وكذلك في قدرتهم على إعادة تعريف العلاقة مع فرنسا، بحيث تُبنى على المعاملة بالمثل وتتحرَّر بالكامل من الإرث الاستعماري.

 واقع فرض على الرباط البحث عن دور لها ضمن الرابطة الأطلسية مع بريطانيا والولايات المتّحدة، لا سيما وقد منحتها الأخيرة اعترافا مهمّا بسيادتها على الصحراء الغربية، فيما مالت الجزائر إلى خطب ود الروس والاستفادة من ترسانتهم العسكرية.

خارطة طريق 

أجبرت تلك التراكمات -التي حصلت في أكثر من قضية مع المغرب خاصة ودول المغرب عامة- صنّاع القرار في باريس إلى الركض من أجل تسوية المنغّصات التي تثقل على العلاقات بين القوة الاستعمارية السابقة، والشريك المغربي الذي فرض نفسه رقما صعبا في معادلة التوازنات الإقليمية والشراكات الاقتصادية والأمنية في فضاء جغراسياسي متقلّب

ويُرجّح أن ترسم الزيارة المرتقبة التي من المقرّر أن يجريها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى المغرب مطلع العام القادم -والتي مهّدت لها وزيرة الخارجية كاترين كولونا قبل أيام في الرباط – ما يشبه خارطة طريق لتعزيز العلاقات المغربية الفرنسية، بينما تتحرّك الدبلوماسية المغربية على أكثر من مسار، ليكون تصحيح العلاقات على قاعدة متينة بما يشمل عددا من المطالب الملحّة، من بينها المطالبة بـ: 

– موقف فرنسي واضح من ملف النزاع في الصحراء الغربية.

– إعادة أرشيف الاستعمار الذي تطالب به الرباط باعتباره جزءا من مرحلة مهمة في تاريخ المملكة.

– الشراكة الاقتصادية والأمنية سيكون لها نصيب من نقاش سيفتح على وقع خطوات المصالحة التي يجري ترتيبها في هذه الفترة.

ملفات ساخنة وعميقة أظهرت أنّ فرنسا تسلك استراتيجية أشبه بمَن يزرع الألغام من حوله لحماية نفسه، بيد أنّه سرعان ما يكتشف أنّ تلك الألغام ستنفجر فيه قبل غيره.

وقد تجد فرنسا أنّها زرعت ألغاما أكثر من اللازم هذه المرة، وأنّ ما فقدته لعلّه لن يعود كاملا أبدا كما تعوَّدت، لاسيما في زمن يرى فيه المغاربة عشرات البدائل أمامهم تُعوِّضهم عن تلك العلاقة المُرتبكة مع باريس، بل وتمنحهم الشعور بالتكافؤ الذي لم يأتِ أبدا من شمال المتوسّط.