رأي

“فرنسا الحقيقيّة” والإرث الاستعماري

فوزي الصدقاوي 

دفعت التحوّلات العميقة التي شهدتها فرنسا بين القرن الـ18 والقرن الـ21 بنخبها السياسية والعلمية، إلى فتح نقاشات واسعة قصد تشكيل تصوّر لفرنسا عن نفسها تتماهى وتطلّعاتها والمهامّ الاستراتيجية التي تصدّت لأدائها.

ففي نهاية القرن الـ19 بلور فاشي دي لابوج (Vacher de lapouge) تعريفا عرقيا للشعب الفرنسي فحدّده بالخصائص العرقية الوراثية، معتبرا أنّ الذين لديهم هذه الخصائص هم الذين يمثّلون “فرنسا الحقيقية”.

وهذا المفهوم تطوّر بدوره مع جورج مونتاندن (George Montandon) وروجي مارسيال (Martial..R) تحت حكم فيشي (Vichy).

أما التعريف الثاني فقد بدأ تداوله في نهاية القرن الـ19 من قبل موريس باراس (Maurice Barrès) ولوي ماران (louis Marin) فهو مفهوم غير بيولوجي، لكنه مفهوم ذو علاقة بتاريخية العِرْق بما على أساسه تكون “فرنسا الحقيقية” فعلا. فهذا التعريف يجمع الأفراد الذين توارثوا التاريخ نفسه عبر سلالات لقرون عدة حيث أهمية العناصر المقوية للتقاليد (الجذور، الثقافة الريفية والإقليمية والديانة الكاثوليكية… إلخ).

أما التعريف الثالث لـ”فرنسا الحقيقية” فذاك الذي نظّر له أميل دوركايم (Emil Durkheim) بدمجه لمكوّنات العالم الحديث، (النزوح من الريف، الصناعة، المدن)، فالثقافة الوطنية لا تنتقل وراثيا بطرق السلالات فحسب، بل تكون أيضا بفضل مؤسّسات الدولة لاسيما التي لها علاقة بالتربية. وعليه يمكن الاستخلاص أنّه من أجل الانتماء إلى “فرنسا الحقيقية” ليس ضروريا الانتماء إلى الآباء الأولين بل يكفي الاندماج في الدولة الوطنية بقبول قوانينها.

إنّ هذه التعريفات الثلاثة التي انشغلت بتحديد “فرنسا الحقيقية” من هي؟ تطوّرت مع حصول العلوم الاجتماعية على اعتراف مؤسّسات الدولة، لكن هذه القضية عرفت تعارضا بين مبادئ المادة العلمية من جهة والنزاعات بين النخبة العلمية داخل كل اختصاص علمي من جهة أخرى، وهو ما ساهم بكلّ حال في تراجع التيار العرقي البيولوجي.

إلّا أّن حاجة فرنسا إلى القيام بأدوار تخرج عن نطاقها المحلّي لتتجاوز حدود جغرافيّتها السياسية، كان يستوجب أرضية نظرية تؤسّس لهويتها وللدور الذي تضطلع به، كما تبرهن على أنّ مصلحة فرنسا متحقّقة لا محالة، إن سُخّر لها ما تحتاجه من دعم سياسي وتشريعي واقتصادي وإعلامي وإسناد لرأي عام واسع.

وفي مستوى متقدّم من هذا البحث، وخلال تسعينات القرن العشرين، انشغلت الساحة الفكرية والسياسية في فرنسا أيضا، بموضوع العنف فأنتجت في الغرض دراسات ذات مقاربات تاريخية وأنثروبولوجية وسوسيولوجي. وكانت حرب يوغسلافيا حينها قد استولت على وعي الأوروبيين واستدعت في ذاكرتهم صور الإبادة الجماعية، لحروب القرن فتمدّدت تلك الدراسات وهي تحفُر في تاريخ العنف وتشريعاته و مؤسساته لتطال أيضا بالنقد المنهجي المؤسّسات الفرنسية العقابية (مخافر الشرطة، مراكز الإيقاف، السجون، المحتشدات، مناطق الإبعاد، محلات الإقامة المراقبة)، بوصفها أهم المؤسّسات العقابية للدولة، صاحبة الحق في احتكار العنف الرسمي. 

في مستوى آخر، تزامنت أيضا هذه المباحث في فرنسا، مع النقاش الدائر في أوساط الحرْكِيين وجمعيات تحتضن الفاعلين ذوي العلاقة بالتاريخ الاستعماري الفرنسي والمعمّرين القدامى والمحاربين في حرب الجزائر حول “إدماج الماضي الاستعماري” في التاريخ الفرنسي العام. وكانت تلك النقاشات التي استمرّت بين (1995-2005)، قد كشفت أن درجة عالية من الممانعة السياسية ظلّت وراء تعذّر إعادة تقييم مهمّة فرنسا ودورها في العالم خلال المرحلة الاستعمارية.

ومن بين أبلغ مظاهر تلك الممانعة أنّ مؤلفات فرانز فانون التي أسسّت النهج النقدي لمسيرة الاستعمار منذ سنة 1949، قد مُنعت من الأسواق من قبل السلطات الفرنسية، ورغم أنّ بعضها طُبع سنة 1961 سرا مثل كتاب “المعذّبون في الأرض” فإنّه مُنع أيضا من النشر بحجة الاعتداء على الأمن الداخلي للدولة الفرنسية. 

وبينما طوى النسيان في فرنسا، فرانز فانون وأفكاره، فإنّ كتاباته التي ترُجمت إلى لغات عديدة انتشرت خلال عقود في أنحاء العالم، وألهمت خصوصا فكر الباحثين الأنقلوسكسون عبر تيّار الدراسات ما بعد استعمارية (Stream of études post-coloniales). ولم يطل الأمر ليعيد باحثون فرنسيون وفلاسفة إلى كتابات فانون منذ مستهلّ سنوات الـ2000 قيمتها المعرفية وما لها من اعتبار، إلاّ أنّ ظهور كتابات فانون بفرنسا لم يصحبه تأثير بالغ في الحركة النقدية إذ قلّما تمّ تقديم فانون في الأوساط الفرنسية، بوصفه منظّرا وقلّما كان فكره موضوعا للبحث.

ورغم النقاشات حول إدماج الماضي الاستعماري في التاريخ الفرنسي العام، فقد تمّ إصدار قانون 23 فيفري 2005، الذي يفرض على المؤسّسات التربوية والجامعية تمجيد الحضور الاستعماري الفرنسي في ما وراء البحار وفي شمال إفريقيا، وإبراز الدور الإيجابي الذي اضطلعت به السلطات الاستعمارية في تمدين “الآخر” أي الشعوب المستعمَرة، حيث كان لإصدار هذا القانون جدلا واسعا في فرنسا و المستعمرات القديمة، ما حمل كلود ليوزيو (Claude liauzu) مع عدد من المؤرّخين و المدرسين على الإمضاء على عريضة تطالب بإلغاء هذا القانون.

ظلّ السؤال حول ” فرنسا الحقيقية” من تكون؟ يشغل الفرنسيين منذ ثورة 1789، وما يزال إلى غاية اليوم، ويثير في كل محطة تاريخية جديدة في الأوساط السياسية والثقافية نقاشات قلقة، تؤرّق النخب الفرنسية، فبالنظر إلى ما اضطلعت به فرنسا من دور عبر العالم، تصطدم على الدوام، بالسؤال حول قابلية “فرنسا” تلك، استيعاب إرث الماضي، وما أتته من فظاعات، خلال المرحلة الاستعمارية. ناهيك عن كون مواجهة مثل هذه الأسئلة، تزيد في توتّر علاقات فرنسا الخارجية الراهنة وتجعل من الوصول إلى معادلة تعالج القلق الفرنسي الداخلي -الذي تثيره عند كل أزمة، مسألة الاندماج- أمرا متعذّرا.