ما كان يُميّز مواقف الاتحاد الأوروبي من الثورة التونسية، برأي بشارة، هو حالة الارتباك التي بدا عليها الاتحاد، فظلّ يراقب في صمت، وفي انتظار ما ستسفر عنه الأحداث، خشية التورط مع نظام ابن علي
فـوزي الصـدقاوي
استعراض عزمي بشارة لمواقف دول مهمة في العالم من الثورة التونسية(1)، هو سؤال يهتمّ بمدى أصالة الثورة ضمن السياقات الدولية، وهو أيضا، استفهام يختبر الاستراتيجيات التي تحكم المنطقة وتوفر استقرارها، لاسيما أن دولاً كانت الثورة قد أربكتها وضيّعت معها نباهتها المعتادة. ولعله أمر طريف، أن نتنبّه نحن أيضا، إلى أن بلدا صغيرا تقوم فيه ثورة تُسقِط نظام حكم مستبد، يمكن أن يـصنع إعصارا في مجاله الجيوسياسي، على نحو ما يمكن أن تؤكّده نظريّة تأثير الفراشة.
أهم الأخبار الآن:
كانت العلاقات التونسية – الأمريكية في فترة ولاية الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن، قد أصبحت أكثر «تنسيقا» على المستوى العسكري والأمني، مع اعتبار، مكافحة الإرهاب بعد عام 2001، عقيدة تحكم السياسة الخارجية في المنطقة العربية وفي جنوب غرب آسيا. وقد مكّن التعاون الأمني الوثيق بين الولايات المتحدة وتونس من التملّص من النقد الدولي في قضايا حقوق الإنسان، إذ ظلت علاقة الولايات المتحدة الأمريكية مع حلفائها العرب، قائمة على معادلة التنسيق السياسي والأمني من جهة والنقد اللفظي لسياسات حلفائها من جهة ثانية. وذلك مراعاة لمصالحها الاستراتيجية التي تحدد الموقف وتحدد ما تقبل به من مفاهيم وقيم وما لا تقبل به.
وكانت تونس تحظى أيضا بالرعاية والثناء الأوربيين، وتتمتع بخدمات التسويق الدولي من قبل الدعاية السياسية الأوروبية، وبتصنيع صورتها في أسواق المال، والمحافل السياسية، فقد وصف شراك سنة 1992 حكم نظام ابن علي بـ”المعجزة التونسية”.
ولم يكن قد مضى على انقلابه، غير أربع سنوات، ولم يَفهم أحد حينها، كيف تحدث المعجزة الاقتصادية ولم تكن مراكمة رأس المال قد استكملت دورتها بما يكفي، لتحقق الحدّ الأدنى من الفائض المُجزي، وليُعاد به تنشيط الدورة. ورغم سِجلّ العار الذي تقصّـته المنظمات الحقوقيّة عن النظام في تونس، فإن شيراك لدى زيارته تونس سنة 2003، صرّح بحضور بن علي أن “أوَّل حق من حقوق الإنسان هو الحصول على الغذاء والرعاية الصحية والعلم والمسكن” ترجمته الصحافة بصغة ساخرة : (كُـلّ وأغلق فمك-mange et férme ta gueule)، فيما اعتبر الحزب الشيوعي الفرنسي أن تصريح (رئيس الجمهورية لا يخدم الديمقراطيين الذين يكافحون يوميا من أجل حرياتهم في تونس).
كان حجم الإسناد، والتسامح الذي حظي به نظام ابن علي، يُعبّر عن أن الكمبرادور، قد اتخذ موقعه المناسب وتحددت مهامه في المنطقة ضمن شبكة المصالح الإقليمية والدولية، بمصاحبة عملية تسويق أورو – أمريكية تحت مظلّة المنظمات والوكالات الدولية، المعنيّة بالتنميّة، بالمعنى الواسع (الاقتصادي والسياسي والثقافي والعسكري).
وقد مُنحت تونس من قبل الاتحاد الأوروبي شراكة خاصة في المجالات الاقتصادية فهي أوّل دولة في جنوب المتوسط تُبرم اتفاقا للتجارة الحرّة مع الاتحاد في جانفي 2008.
وما كان يُميّز مواقف الاتحاد الأوروبي من الثورة التونسية، برأي بشارة، هو حالة الارتباك التي بدا عليها الاتحاد، فظلّ يراقب في صمت، وفي انتظار ما ستسفر عنه الأحداث، خشية التورط مع نظام ابن علي، إن هو استطاع القضاء على الاحتجاجات وقمع موجاتها المتصاعدة، وقد استمر صمته عمّا يجري في تونس إلى 10 جانفي، عندما ارتفع عدد الضحايا في صفوف المتظاهرين على أيدي قوات الأمن، حينها كانت الناطقة الرسميّة للاتحاد الأوروبي، بتأكيد ضرورة احترام الحقوق المدنيّة والسياسية للتونسيين. والدعوة إلى الإفراج عن المساجين السياسيين والمدونين والصحفيين والمحامين.
لكنّ عاد الاتحاد ثانيةً ملازما الصمت إلى أن أُعلن عن فرار ابن علي، فخرجت في 16 جانفي، المسؤولة عن السياسة الخارجية للاتحاد كاثرين آشتون لتعبّر عن دعم الشعب التونسي، والاعتراف له بتطلعاته الديمقراطية.
كانت مواقف الاتحاد الأوروبي تصدر عن رؤيّة مشتركة بين دوله، إذ أعربت الخارجية الألمانية، عن كونها تتابع تطوّرات الأوضاع في تونس بـ “قلق بالغ”. وبنفس التعابير كان الإيطاليون بدورهم يتابعون هم أيضا بـ”قلق”، لما يجري في تونس من أحداث، ولأهميّة نفوذهم وسياستهم المتوسطية القديمة.
وقد دعت الخارجية الإيطاليّة، في 15 جانفي مؤسسات الدولة والمجتمع التونسي إلى “ضبط النفس” و”الهدوء” و”التحاور” مؤكّدة أنّها تقوم بما يلزم لدعم خيارات التونسيين. كذلك الأمر مع الإسبان الذين لم يصدر عنهم بيان واحد بشأن الثورة، أمّا بعد سقوط بن عليّ فاعتبروا أن تونس، “أصبحت تتنفس الحريّة”.
كما صرّحت الخارجيّة البريطانيّة يوم 15 جانفي، بعد سقوط بن عليّ أن تونس تعيش لحظة تاريخية، عبّر فيها التونسيون، عن تطلعاتهم. لكن بعد يوم واحد 16 جانفي، عادت الخارجية لتندد بــ(أعمال العنف والنهب في تونس)، داعية إلى العودة إلى الهدوء. إذا فالموقف الثابت والموحد للدول الأوروبية في نظر عزمي بشارة، هو التزم الصمت إزاء ما يحدث في تونس، أمّا بعد فرار ابن على فالمواقف ستتعدّل بناء على ما استجد وعلى ضوء المصالح الاستراتيجية الأوروبية المشتركة.
لم ينس التونسيون، تصريحات وزيرة الخارجية ميشيل أليو – ماري، في 11 جانفي 2011، أمام الجمعية الوطنية، حين عبّرت عن أسفها لأعمال العنف في تونس، مؤكّدة استعداد فرنسا المساعدة في حفظ النظام، من خلال إرسال شحنات مناسبة من السلاح لمواجهة المتظاهرين، وفي 13 جانفي دعا رئيس الحكومة الفرنسي التونسيين إلى ضبط النفس، مع التعبير عن “القلق” الأوروبي المعتاد من الاستخدام غير المتكافئ للعنف، ثم لم يلبث أن جاء استدراك الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي الذي أكّد أنّ فرنسا “نأت بنفسها” عمّا يحدث في تونس، وهي التي كانت تدعم إلى 14 جانفي2011، ابن علي وتسند نظامه، وهو ما جعل من خيار فرار ابن علي، كما يدّعي ساركوزي، الخيار الوحيد، المتبقي أمامه.
أما وزيرة الخارجية الفرنسية ميشيل أليو ماري فقد أكّدت في 4 فيفري أن فرنسا تريد (من تونس النموذجيّة أن تظهر للعالم بأسره بأنّها مدعومة بالكامل ومندمجة وتتم مواكبتها في حركتها من قبل فرنسا وبالطبع من قبل أوروبا)، وأن عليها (الإسراع في العملية التي تسمح لتونس بالاستفادة من الوضعية القانونية المتقدمة). ولم يتحوّل الموقف الفرنسي إلى دعم الحركة الشعبية إلا يوم 15 جانفي بعد أن تأكّد لفرنسا سقوط ابن علي.
أمّا وزارة الخارجية الأمريكية فقد سلمت في 7 جانفي 2011، السفير التونسي في واشنطن، رسالة تعبّر فيها عن “قلق” الولايات المتحدة الأمريكية حيال الاستخدام المفرط للعنف ضد المتظاهرين في تونس، ودعت إلى “احترام” الحريات الأساسية والفردية، وفي 11 جانفي كررت الخارجية مجددا تعبيرها عن “القلق” للأسباب ذاتها.
أمّا وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون، فقد أكّــدت عدم وجود اتصالات في الوقت الحالي، بين الولايات المتحدة والسلطات التونسية، وأنّها ستنتظر إلى أن تهدأ الأوضاع لتقوم بالاتصالات المطلوبة. أمّــا في منتدى المستقبل بالدوحة بتاريخ 13 جانفي 2011 ، وجّهت كلينتون “نصيحة” إلى حلفاءها العرب، أنّهم في حاجة إلى مكافحة الفساد، وإصلاح أنظمتهم السياسية، خشية أن يخسروا مستقبلهم لصالح، العدوّ المشرك، وهم المتشددون الإسلاميون.
لكن مع مغادرة ابن عليّ البلاد، أفاد بيان البيت الأبيض في 14 جانفي أنّه يراقب تطوّر الأحداث في تونس، فيما المتحدث باسم البيت الأبيض عبّــر عن إدانته للعنف داعيا السلطات التونسية إلى “الوفاء بالالتزامات التي قدّمها الرئيس بن علي في خطابه إلى التونسيين، بإجراء الإصلاحات السياسية واحترام حقوق الإنسان، وهو ما يعني برأي بشارة، أن الولايات المتحدة الأمريكية إلى تلك اللحظة كانت تتجنّب توجيه النقد إلى بن علي، وظلت تراهن عليه وعلى نظامه، آملة في بقاء نظامه وإجراء الإصلاحات التي وعد بإنجازها.
أمّا المسؤول عن مكتب الشرق الأوسط في مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي فقد أعلن في 14 جانفي، أن الجيش التونسي مسيطر على البلاد. وأنّه ليس المهم أن يكون قادة الجيش ديمقراطيين، ولكن المهم أنّهم عازمون على إزالة الفساد والنهب، ملاحظاً أن الثورة “خالية من الإسلاميين”، في إشارة تطمين للمتخوّفين من صعود القوى الإسلاميّة بهذه المناسبة.
فالموقف الأمريكي الذي اكتفى في أول الأمر بالتعبير عن “قلقه” ثم استنكاره استعمال القوة المفرطة ضد المتظاهرين، ومن بعدها دعا السلطات التونسية إلى الالتزام بوعود ابن علي بخصوص إجراء الإصلاحات، مطمئنا أن الجيش يمسك بزمام الأمور، ومطمئنا المتخوّفين، أنّه ثبت لديها أن الثورة خالية من القوى الإسلاميّة. لكن هذا الموقف سينتقل، فجأة إلى تقديم توجيهاته إلى التونسيين، بضرورة تنظيم مرحلة الانتقال إلى الديمقراطية، وهي التي كانت بالأمس تَــعقد مع نظام الاستبداد قبل انهياره، الاتفاقات والشراكات وتقدم الدعم الأمني والعسكري والاستخباراتي. وفي 26 جانفي، أكّد أوباما أن بلاده تساند الشعب التونسي وتدعم تطلعاته الديمقراطية بعد تخلّصه من الدكتاتورية”.
يعود الارتباك الذي بدا في السياسة الأمريكية تجاه الثورة التونسيّة بحسب عزمي بشارة، إلى أنّ الاحتجاجات التي شهدتها تونس أدت إلى نهاية غير متوقعة، وأن ما كان يمكن أن يحدث في الحدود القصوى، هو استمرار النظام نفسه مع المحافظة على الاستقرار بإجراء الإصلاحات سواء ببن علي أو دونه. لاسيما أنّها كانت تتذرّع بتصدير الديمقراطيّة لتبرير التدخل العسكري والمحافظة على مصالحها في المنطقة، بيد أنّها عادت لتعمل على المحافظة على الاستقرار، ولو كان يدار بقبضة أنظمة الاستبداد، ما دامت أنظمة حليفة. غير أنّ كيد التاريخ، علّمنا أنّه يمكن كسر “الحتميات الأمريكية” إن أصرت شوارع الثورة على أن تبلغ مداها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) عزمي بشارة : الثورة التونسية المجيدة،بنية ثورة وصيرورتها من خلال يومياتها، مركز الأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، الطبعة الأولى، 2012، 496 ص.
أضف تعليقا