توصّل فريق من الباحثين في علوم الآثار من تونس وإنجلترا وألمانيا إلى اكتشاف غرف جنائزية ومقابر ولوحات فسيفسائية ولُقى فخارية بكنيسة مسيحية بالموقع الأثري ببلاريجيا بولاية جندوبة (شمال غرب تونس)، وفق ما أكّده مدير الموقع الأثري ببلاريجيا محرز حسيني لوكالة تونس إفريقيا للأنباء (وات).
وتمكّن فريق الباحثين إثر عمليات حفر انطلقت موفى الأسبوع الماضي من اكتشاف بقية العناصر المكوّنة لكنيسة مسيحية يعود تاريخها إلى القرون؛ الخامس والسادس والسابع ميلادي، والعثور على غرف جنائزية ومقابر عمودية وأخرى أفقية، وقبور جماعية مُغطاة بعضها بلوحات فسيفسائية، وبعضها الآخر بواسطة حجارة من الحجم الكبير كما تمّ العثور على عدد من الهياكل العظمية والعملة واللقى الفخارية.
وجاء هذا الاكتشاف بعد سلسلة من الحفريات انطلقت منذ عام 2017، وشملت قطعة أرض مجاورة للموقع الأثري ببلاريجيا على ملك أحد الخواص، قبل أن يتمّ شراؤها من قبل المعهد الوطني للتراث، بعد تبيّن مؤشرات تدلّ على وجود منطقة أثرية مغمورة بالتراب.
ووفق رئيسة الوفد الإنجليزي الأستاذة المختصّة في علوم الآثار بجامعة لندن كوريزاند فانويك، فإنّ الفريق منكب على فهم ما حدث خلال القرون 5 و6 و7 وبداية القرن الثامن ميلادي، وأنّ المكتشفات الأولية تُحيل على طريقة عيش السكان المسيحيين خلال تلك الفترة ومخلفاتها بما فيها الفترة العربية والإسلامية، خاصة خلال القرن السابع وبداية القرن الثامن ميلادي.
وأضافت الباحثة أنّ المكتشفات الجديدة تدل على طريقة دفن الموتى ونمط عيش سكان المنطقة خلال تلك الفترة، وطبيعة المأكولات والأطعمة التي كانوا يتناولونها، مُستندين في ذلك إلى الهياكل العظمية والمخلفات النباتية والحيوانية التي عُثر عليها.
ويقول علماء الآثار إنّ تاريخ تأسيس بلاريجيا غير محدّد بعد، ويرجّحون أن يكون سابقا للقرن الخامس قبل الميلاد. إلاّ أن المنطقة شهدت، نموا سريعا، إذ بدأت المدينة بعد سنة 46 ق.م تتّخذ شيئا فشيئا طابعا رومانيا.
وممّا يدل على ذلك أن الديانة اليونانية الرومانية والأسماء الرومانية الجديدة التي يحملها سكان المدينة واستخدام اللغة اللاتينية بدأت الانتشار في الحياة اليومية.
وارتقت المدينة إلى مختلف المراتب البلدية وتزيّنت في الأثناء بحلية من المعالم الفخمة، وأصبحت تمتلك العناصر الأساسية التي تميّز المدن الرومانية مثل: الساحة العمومية (الفوروم) والبازيليكا المدنية والحمامات العمومية (الحمام الممّي، نسبة إلى جوليا ممّيّا، والحمام الكبير الواقع جنوبا والحمام الواقع شمال غربي المسرح، إلى غير ذلك…) والمكتبة والسوق والمسرح والمدرّج ومعبد الكابيتوليوم (المكرس للآلهة يوبيتير وجونو ومينيرفا) ومعابد أبولو وإيزيس وساتورنوس…
وتستمد بلاريجيا شهرتها من المساكن الفخمة ذات الطوابق تحت الأرض التي تُعدّ دررا في مجال العمارة السكنية لتونس في العصور القديمة.
وتحمل هذه المساكن أسماء متعدّدة على غرار منزل وينوس، ومنزل القنص، ومنزل القنص الجديد، ومنزل صيد السمك، ومنزل الفسيفساء، ومنزل الكنز.. في إشارة إلى الاكتشاف الرئيسي الذي عُثر عليه بكل مسكن من هذه المساكن، والذي غالبا ما يكون موضوع أرضية الفسيفساء.
وما تزال المعلومات المتوفرة حول المدينة خلال الفترة التي خضعت فيها إفريقيا لسيطرة الوندال (439- 533م) شحيحة للغاية، أما خلال الفترة التالية التي أصبحت فيها إفريقيا تابعة لبيزنطة (533-698 م)، فقد ظلت بلاريجيا تحتفظ ببعض الأهمية، حيث يبدو أن العمليات العسكرية التي دارت خلال الحقبتين الوندالية والبيزنطية لم يكن لها تأثير فعلي في حياة المدينة.
ومن ذلك أنّه تمّ خلال الفترتين بناء عدد من الكنائس، كما كشفت آخر الحفريات عن كنيسة جديدة تقع في أحواز المدينة ومقبرة مسيحية واسعة ما تزال تخفي كنوزها.
وترجّج علوم الآثار أنّ الهجر التدريجي للمدينة لم يكتمل إلّا في موفّى القرن الـ12 م، وأنّ حالة المدينة تدهورت كثيرا، غير أنّ العملية كانت بطيئة ولم يحدث الانهيار بشكل فُجئي.