محمد بشير ساسي
لعقود ظلّت القضية الفلسطينية حاضرة بقوة في المشهد الدولي، غير أنها لم تستأثر بالاهتمام والمتابعة والتفاعل أكثر من اللحظة الراهنة، فقد تحوّلت منذ السابع من أكتوبر 2023، من قضية مركزية مصيرية في وجدان العرب والمسلمين في منطقة الشرق الأوسط إلى قضية مؤثّرة في العالم بأسره..
أهم الأخبار الآن:
وإذا كانت بعض المواقف الغربية والدّولية عموما مألوفة في تعاملها وتقييمها لردّة الفعل الإسرائيلية الوحشية على عملية “طوفان الأقصى” بالنظر إلى تجارب سابقة، فإن المفاجئ هذه المرة هو تغيّر القناعات والثّوابت في الوعي لدى نسبة كبيرة من المجتمع بالإضافة إلى تأثيرها في عالم السياسة وصناع القرار في أوروبا والغرب.
حلفاء إسرائيل
في الأيام الأولى من حرب الإبادة على غزة، هرع الغرب إلى حشد قواته لدعم الكيان الصهيوني، لتتماهى التصريحات والمصطلحات السياسية المستخدمة من قبل مسؤولين رسميين وإعلاميين، وتلك المستخدمة من قبل القادة السياسيين والعسكريين الإسرائيليين..
آنذاك أصدر كلّ من الرئيس الأمريكي جو بايدن ورئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناكا والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشار الألماني “أولاف شولتز”، ورئيسة الوزراء الإيطالية “جورجيا ميلوني”، بيانا مشتركا أعربوا فيه عن دعمهم الثابت لإسرائيل وإدانتهم لهجوم حركة حماس على مستوطنات غلاف غزة. وصرح هؤلاء القادة بأنهم سيبقون متحدين وسيواصلون التنسيق حلفاء وأصدقاء مشتركين لإسرائيل، وذلك لضمان أن تتمتع الأخيرة بقدرة الدفاع عن نفسها.
وبموازاة ذلك سخَّرت تلك الحكومات كل قواتها العسكرية، الناعمة، المؤسسات الإعلامية، ووسائل التواصل الاجتماعي، والمؤسسات الرياضية والأكاديمية، لإظهار الذات الإسرائيلية ضحية المقاومة الفلسطينية وأن المشكلة في حركات المقاومة وليس الاحتلال الإسرائيلي وكذلك لتسويغ العدوان الإسرائيلي
وإسكات الأصوات التي تندد بالمجازر التي تقترفها إسرائيل ضد المدنيين العزل في غزة والداعمة للقضية الفلسطينية ونضال الشعب الفلسطيني من أجل التحرر.
رجات قوية
لكن مع مرور الوقت أحدثت الهزات الارتدادية لحرب الإبادة الصهيونية وشظاياها غير الإنسانية رجات عميقة في الوعي السياسي الغربي وأعادت رسم خريطة إدراكه الاستراتيجي
بعدما فرضت عليه طرح أسئلة عن سر المواقف التي بدت في عمومها غير مبالية ورؤى مختلفة بشكل جوهري عن رؤى التيارات الشعبية المناصرة للشعب الفلسطيني الأعزل وقضيته العادلة..
لقد أجابت المواقف الشعبية في شوارع العواصم الغربية الكبرى – على سبيل الحصر لندن – عن أخطر سؤال أفرزته الحرب على غزة: ماذا تبقى من الغرب الذي ظل طوال العقود الماضية يُقدِّم نفسه “القوة المعيارية” التي تُنتِج القيم والمثل العليا والمبادئ الإنسانية، وتُعزز الديمقراطية عبر الحكم المؤسساتي وسيادة القانون وحماية حقوق الإنسان والعدالة والحرية؟
بالنظر إلى المشهد في أوروبا وتحديدا في بريطانيا فقد أظهرت تداعيات الحرب المستمرة على غزة آثارها الواضحة في المشهد السياسي والتي وصل صداها إلى أروقة البرلمان بعدما تحولت المظاهرات الحاشدة في الشوراع دعما للشعب الفلسطيني إلى لعنة” تهدد الحزبين الرئيسيين في البلاد المحافظين والعمال المتهمين بالتواطؤ مع إسرائيل في حرب الإبادة على غزة..
تحالف برلماني
فمنذ بداية العدوان الإسرائيلي غرّدت كل من حكومة ريشي سوناك والمعارضة بعيدًا عن الشارع والتحركات المليونية المطالبة بحماية المدنيين في غزة لتتحالفا تحت قبة البرلمان بالتصويت ضد قرار وقف إطلاق النار بــتأييد 293 عضوا بذريعة أنه سيلحق الضرر بـحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”، واكتفتا بالدعوة إلى “هدن إنسانية”.
وزادت وزيرة الداخلية البريطانية سويلا بريفرمان المقالة من لهيب الأزمة السياسية عندما وجّهت رسالة إلى كبار قادة الشرطة في إنجلترا وويلز، تُحذّر فيها من مظاهر دعم “حماس” في شوارع بريطانيا، وطالبت الشرطة باستخدام القوة الكاملة لمنع ظهور أي رموز أو شعارات أو أعلام معادية لإسرائيل، خاصة في الأحياء التي تقطنها غالبية يهودية.
كما طالت حرب غزة حزب العمال الذي تقدّمت العشرات من قياداته باستقالتها؛ غضبًا من موقف الزعيم كير ستارمر عندما اعتبر أن لإسرائيل الحق في قطع إمدادات الماء والكهرباء والوقود للدفاع عن نفسها، خاصة أنها صدرت عن محامٍ ومدّع عام سابق.
وكانت القشة التي قصمت ظهر البعير حين سحب حزب العمال دعمه من أزهر علي المرشّح التقليدي للانتخابات التكميلية للبرلمان في منطقة روتشديل، بعدما صرح بأنّ إسرائيل سمحت عمدًا بقتل مواطنيها حتى تتمكن من شنّ العدوان على قطاع غزّة، وجرت الرياح بما لا يشتهيه ستارمر في منطقة داعمة بشكل تقليدي لحزبه في لحظة فارقة أعادت المواقف من الحرب الإسرائيلية رسم خريطة الاصطفاف في الطبقة السياسية البريطانية وذلك في عام انتخابي لا يمكن فيه قراءة أغلب المواقف بمنطق عائد الأصوات فقط، بل أيضا بانقسام سياسي وأيديولوجي واضح بشأن التعاطي مع القضية الفلسطينية.
انتخابات غزة
وليس من المبالغة وصف الإعلام البريطاني للانتخابات المبكرة -التي جرت في دائرة “روشديل” في مدينة مانشستر- بأنها “انتخابات غزة” فالأحداث التي صاحبت الحملة الانتخابية ونتائج الانتخابات تظهر أن “غزة أصبحت مؤثرة في المشهد السياسي البريطاني”.
وأسفرت هذه الانتخابات عن وصول السياسي المثير للجدل جورج غالاوي إلى البرلمان من جديد، وهو المعروف بمواقفه الداعمة لفلسطين والمنتقدة لإسرائيل، ولهذا لم يكن من قبيل الصدفة قوله بعد إعلان نجاحه إن “هذا الفوز من أجل غزة.
وأظهرت هذه الانتخابات أمرين أساسيين:
– أولهما أن غزة ستكون من الملفات الأساسية المطروحة في الانتخابات العامة المزمع إجراؤها خلال الأشهر المقبلة.
– أما الأمر الثاني فهو تأثير الصوت المسلم في قلب العديد من المقاعد البرلمانية.
وكان مقعد “روشديل” تقليديا لحزب العمال منذ أكثر من عقدين، قبل أن يقرر المسلمون في المنطقة، والذين يشكلون 30% من السكان، مقاطعة هذا الحزب بسبب موقفه الرافض للدعوة إلى وقف فوري لإطلاق النار في قطاع غزة، وبالفعل حصل خلال هذه الانتخابات على أسوإ نتيجة له بهذه الدائرة منذ ما يزيد عن نصف قرن.
وتحدث النائب غالاوي عن فوزه في دائرة “روشديل” مؤكدا أنه لا يعبر فقط عن أصوات الأقلية المسلمة “التي ساندته بقوة، لكن عبر عن أصوات عشرات الآلاف من الغاضبين من سياسات حزبي المحافظين والعمال المتواطئة مع الإبادة الجماعية التي تُرتكب بحق الفلسطينيين في غزة.
واعتبر غالاوي، الذي يعود إلى البرلمان للمرة الرابعة في تاريخه، أن من صوّت له يريد من الطبقة السياسية البريطانية أن تتحرك لمواجهة الحيف والظلم الذي يتعرض له الفلسطينيون في غزة.
لم يتأخر رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك في وصف فوز السياسي المخضرم جورج غالاوي في الانتخابات البرلمانية بالأمر المثير للقلق، وحذَّر من مساعي تقويض الديمقراطية في المملكة المتحدة. واتهم سوناك من وصفهم بـ”المتشددين الإسلاميين واليمين المتطرف” بتعمد تقويض الديمقراطية العريقة في بريطانيا، ودعا إلى اتباع نهج أكثر صرامة في التعامل الأمني مع الاحتجاجات الداعمة لقطاع غزة في ضوء تنامي خطاب الكراهية في البلاد..
عودة غالاوي
لقد فاجأ نجاح غالاوي كثيرا من السياسيين والمؤسسات الرسمية والأحزاب الكبرى في بريطانيا، لكنه لم يفاجئ المحللين المهتمين بالشأن البريطاني بسبب أن الأحزاب الكبرى خانت الشعب واهتمت بشؤونها الضيقة والسؤال المطروح إذن:
ماذا تعني عودة جورج غالاوي إلى البرلمان البريطاني؟
في الإجابة عن هذا السؤال يمكن فهم الوقوف عند عدة نقاط مهمة أثارها صعود السياسي المخضرم غالاوي الذي يوصف ببطل اليسار ويعتبر نفسه جزءا من النضال الدولي ضد الإمبريالية الأمريكية ومعارضا قويا للصهيونية:
– فضح الوجه العنصري لحكومة سوناك التي جاهرت بدعم الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة بالإضافة إلى هجومها على المسيرات المؤيدة لفلسطين والمطالبة بمنعها زاعمة أنها تبث الرعب في صفوف الأقلية اليهودية في بريطانيا، وتنشر شعارات معادية للسامية وتمنح منصة للإسلاميين للتعبير عن مواقفهم.
– الكشف عن حالة من الغضب والصدمة في صفوف عدد من الحقوقيين والسياسيين البريطانيين، لأنهم يرون أن خطابات سوناك قسمت البلاد إلى قسمين: الأول يمثّل القيم البريطانية ولا يشارك في مسيرات نصرة غزة، أما الثاني فهو قسم متمرد وخارج عن القيم البريطانية ويمثله من يخرجون في مظاهرات.
– قبل سنوات كانت الأصوات الداعمة لفلسطين مجموعات صغيرة غير ذات وزن سياسي أو تأثير شعبي قوي، والآن تحولت إلى أنصار بالآلاف وسط العاصمة تعبر عن رفضها الصارخ لما ترتكبه إسرائيل ضد حقوق الشعب الفلسطيني”.
– هناك تحول واضح في الرأي العام البريطاني لا يقتصر على الشوارع فقط، لكن أيضا في صناديق الاقتراع، حيث أصبح الموقف من القضية الفلسطينية عاملا أساسيا يوجه صوت الناخب البريطاني، وهي النقطة التي أصبحت تزعج النخبة السياسية خصوصا في حزبي العمال والمحافظين”.
– تغير مزاج الناخب البريطاني بشكل كبير خصوصا في صفوف الداعمين للقضية الفلسطينية وهذا ما سيحدث رجة في صفوف حزب العمال وسيكسر ثنائية العمال والمحافظين التي تستأثر بالقرار السياسي البريطاني.
– القضية الفلسطينية وغزة على وجه التحديد قالت كلمتها في بريطانيا وروجت بقوة للحق الفلسطيني في المقابل تواجه السردية الإسرائيلية هجمة قوية ورفضا واسعا بين الأوساط الشعبية بعد أن كشفت الحرب المتواصلة مشروع إسرائيل القائم على القتل والإبادة والتهجير والتجويع..
يعكس انتخاب غالاوي وعيا سياسيا قويا في بريطانيا بالقضية الفلسطينية ونظالا كبيرا تقوم به الجاليات الفلسطينية والعربية، وكذلك المنظمات المدافعة عن حقوق الإنسان، مثل أمنستي وغيرها، وحملات الضغط في وسائل التواصل الاجتماعي، والتبرعات من أجل إيصال صوت فسلطين.
وتشق هذه التطورات لصالح فلسطين ضمن بلدان الديمقراطية الغربية، وداخل النخب الوازنة سياسيا التي كان دعم أغلبها لإسرائيل واضحا (أمريكا، بريطانيا، ألمانيا، الخ)، طريقا لأنصار العدالة وحقوق الإنسان في العالم تسمح بإجراء تغييرات على طبيعة النخب، وأيديولوجياتها.


أضف تعليقا