ثقافة

عن الزيتون المعتّق في تونس…أقدم من تأسيس قرطاج

فاطمة الأحمر

انطلق موسم جني الزيتون في تونس منذ شهر أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وهو ليس كغيره من المواسم الفلاحية فأقل ما يقال عنه إنه عرس تقليدي وطني يزفه التونسيون كبارا وصغارا ويحتفلون به أشهر طويلة. 

يبدأ موسم جني الزيتون الأشهر في تونس بتجهيز الوسائل المعتمدة في عملية جني الزيتون من سلالم خشبية للصعود إلى أعلى أشجار الزيتون ومفروشات تفرش أسفل الشجرة حتى تتساقط فوقها حبات الزيتون، وأمشاط يدوية يتم بواسطتها قطف حبات الزيتون من الشجرة. ومسحاة لاقتلاع الأعشاب الطفيلية أسفل الأشجار حتى لا تسبب جروحا في أيادي النساء اللاتي يلتقطن حبات الزيتون المتناثرة. 

تستعمل معظم العائلات التونيسية في عملية جني الزيتون، قرون الأكباش فمباشرة بعد ذبح الكبش في عيد الأضحى، يتم اقتلاع قرنيه وتنظيفهما حتى يصبحا أداة لجني الزيتون. 

في ساعات الفجر الأولى من خريف كل عام، تستفيق النساء في تونس ويتوجهن إلى المطابخ لإعداد وجبات طعام دسمة وتحضير لوازم طبخ الشاي الأحمر من إبريق كبير الحجم وسكر و”حشيشة » (الحشيشة هنا لا علاقة لها بالقنب بل هي ورقات الشاي) وأكواب خاصة. ويتم التجهيز جيدا ليوم طويل ومتعب في رحاب غابات الزيتون وينطلق جميع أفراد العائلة إلى الغابة لجني الزيتون. 

كرنفال 

معظم العائلات في الساحل، شرق تونس، توارثت غابات الزيتون عن أجدادها، وأغلبها تخصص أياما طويلة لجني “عولتها » (المؤونة) من الزيتون في جو احتفالي بهيج يحضره الكبار والصغار. 

فور الوصول إلى البستان، ترى الأم منهمكة في إعداد الشاي الأحمر الثقيل، مصدر طاقة الجميع طوال يوم كامل، و ينطلق الرجال في بسط المفروشات ذات اللون الأخضر تحت أشجار الزيتون ونصب السلالم وتوزيع “الأمشاط” بينهم ثم ينطلقون في جني الزيتون « المبارك”. 

 أما النسوة المسنات فيفترشن الأرض وأمامهن أكداسا من الزيتون لتنقيتها من الأوراق وتصفية الحبات عن الأتربة العالقة بها بواسطة “غربال” ثم يضعنها في أكياس يقع تجميعها وآخر اليوم تنقل  إلى المعاصر لرحيها واستخراج الزيت. 

وما إن ينتهي الرجال من جني جميع حبات الزيتون حتى يتحولوا إلى الشجرة المجاورة، حينها يبدأ عمل ربة البيت وصغارها في التقاط حبات الزيتون التي تسللت من المفروشات كل ممسك بوعاء في يده ومنهمك في رفع الحبات من الأرض.

وتمضي العائلات أياما طويلة في جني الزيتون وتجميعه ليحين موعد عصره واستخراج زيت الزيتون البكر ذي الرائحة المنعشة، ويتم اقتسام المحصول وتوزيعه على جميع أفراد العائلة.

الزيتون في الكتب السماوية

تعتبر أشجار الزيتون إحدى أهم المعالم والرموز المقدسة ورد ذكرها في الكتب السماوية وحظيت بإجماع جميع الديانات على فوائدها وقدرتها على الشفاء ونُسبت إليها ميزات خارقة.

ذُكرت شجرة الزيتون في جميع الكتب السماوية: القرآن الكريم والتوراة والإنجيل، فهي تعتبر من أقدم الأشجار التي عرفها الإنسان غرسها واستفاد من ثمارها، من حطبها وزيتها، فاستضاء به، واستعمله للأكل والدواء. 

تلك الشجرة أقسم بها الله في بداية سورة التين ولا يقسم الله بشيء إلا لعظمته وفضله وبركته،

“وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ”.

وذُكرت في الآية 35 من سورة النور في قوله تعالى: “اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ”. 

وذُكرت في قصة سيدنا نوح حين طلب منه ربه أن يبني سفينة ويحمل على متنها المؤمنين، وزوجاً من كل حي لكي ينجيهم معه من الطوفان الذي كان عقاباً للكافرين فبعد مرور عدة أيام أراد أن يعرف إن كان الطوفان قد انتهى أم لا فأرسل غراباً ليستطلع الوضع فانتظره عدة أيام ولم يعد، ثم أرسل حمامة للسبب نفسه، فعادت إليه وبفمها غصن زيتون رمزاً لانتهاء غضب الله عن الأرض فعلم أن الطوفان قد انتهى وأن باستطاعته أن يعود بسفينته إلى الأرض. 

ومن يومها عُرفت الحمامة بحمامة السلام وغصن الزيتون بعلامة الخير والبركة. وقد ذكرت هذه القصة في جميع الكتب السماوية. 

أما المسيحيون فيمسحون أطفالهم ساعة عمادهم بزيت الزيتون، والمعمودية هي طقس مسيحي يمثل دخول الإنسان الحياة المسيحية.

كما استقبل سكان القدس المسيح بأغصانها يوم دخل المدينة قبل موعد صلبه بأسبوع، ومازال الأطفال حتى يومنا هذا يحملون مجموعة من الأغصان نفسها ويزينونها بالورود والبيض والبالونات في مثل هذه الذكرى.

مسيرة شجرة الزيتون في تونس

قال خالد زروق صاحب دراسة بعنوان “مسيرة الزيتون في الأرض” إن أكبر شجرة زيتون في تونس يبلغ عمرها 2500 عام وهي موجودة في منطقة دار علوش في ولاية نابل شمال شرق تونس ويطلق عليها اسم “جابوز”. 

وزرع الجيش القرطاجني أقدم أشجار الزيتون في الشمال وتحديدا بتبرسق في ولاية جندوبة وأوتيك في ولاية بنزرت وزغوان، وذلك بعد هزيمته مع روما.

أما الرومان فقد زرعوا أشجار الزيتون بمناطق حيدرة وماجل بلعباس في ولاية القصرين غرب تونس، ومرناق في ولاية نابل شمالا وفي الساحل التونسي، وذلك بعد احتلال قرطاج ، وهو ما أثبتته العديد من النقائش الرومانية. 

وحملت “فخاريات برانديري الإيطالية”، وهي من أقدم الفخاريات في التاريخ وتعود إلى حوالي 6 آلاف عام، صورا لأغصان الزيتون وهو ما يثبت أن الزيتون متجذر في بلدان حوض البحر الأبيض المتوسط.  

وأضاف خالد زروق في تصريح لموقع بوابة تونس، أن زيت الزيتون غني بالأوميغا 9 وله فوائد صحية مهمة، ونصح بتناوله بكثافة لما له من عناصر غذائية مفيدة جدا لجسم الإنسان. 

أما عن فوائدها البيئية، تمتص أشجار الزيتون ثاني أكسيد الكربون وتخفف من انبعاثات الغازات الدفيئة كما تساهم في تثبيت التربة وحمايتها من الانجراف.

زيت الزيتون التونسي وشهرته دوليا

تعتبر تونس من أكبر البلدان المنتجة لزيت الزيتون، ومن بين البلدان ذات أكبر مساحة لغراسة الزيتون في منطقة جنوب البحر الأبيض المتوسط. أكثر من 30% من أراضيها المزروعة مخصصة لغراسة الزيتون.

تُبذل جهود كبيرة لإعادة هيكلة القطاع وتحديثه وتعصيره للرفع من جودة زيت الزيتون حتى يحافظ هذا المنتوج على مكانته العالمية على الدوام.  

وتملك تونس أكثر من 65 مليون شجرة زيتون تمتد على مساحة 1680000 هكتار، منها 75 ألف هكتار لمحاصيل عضوية معتمدة. 

قطاع إنتاج زيت الزيتون يحتل مكانة متميزة في النشاط الاقتصادي والاجتماعي بالبلاد ويبرز ذلك من خلال العديد من المؤشرات: فعلى مستوى الإنتاج، تقدر المساحة الحالية بحوالي مليوني هكتار أي ما يعادل 100 مليون أصل زيتون، منها 94% مطري و6% مروي وهو ما يمثل 16% من المساحة العالمية.

تقديرات إنتاج زيت الزيتون لموسم 2021، تناهز 1,2 مليون طن أي ما يعادل 240 ألف طن من الزيت، 200 ألف طن منها ستكون موجهة إلى التصدير و40 ألف ستكون من نصيب السوق المحلية التونسية.

ويساهم قطاع زيت الزيتون في خلق مواطن شغل من 30 إلى 40 مليون يوم عمل ما يعادل 20% من اليد العاملة الفلاحية، ويمثل مورد رزق لحوالي 10% من السكان.

ويشغل قطاع الزيتون في تونس 269 ألف فلاح أي ما يعادل57% من إجمالي عدد الفلاحين، ويمثل 45% من الصادرات الزراعية بمتوسط 120 ألف طن سنويا. 

ويحتل الزيت التونسي المرتبة الثانية عالميا بعد إسبانيا من حيث الجودة، كما تحتل تونس المرتبة الأولى من حيث مساحات الزيتون البيولوجي بـ 255 ألف هكتار، وقد قدر معدل الإنتاج خلال العشرية الفارطة بـ 204 ألف طن زيت. 

وتحتل المرتبة الثالثة من حيث التصدير بعد إسبانيا وإيطاليا، ومن أهم الأسواق التي تورد الزيت التونسي (أوروبا 79%، أمريكا 16%، إفريقيا 2%، وآسيا 3%).

وتحتل تونس المرتبة الرابعة عالميا من حيث عدد أشجار الزيتون، إذ يتراوح متوسط كثافة البستان بين 100 و150 شجرة في الهكتار الواحد، وتعتبر ثاني منتج في العالم بعد دول الاتحاد الأوروبي.

وتتنوع كثافة عدد الأشجار بين 100 شجرة زيتون في الهكتار الواحد في منطقة الشمال و60 شجرة في الهكتار الواحد في منطقة الوسط و20 شجرة في الهكتار الواحد في منطقة الجنوب. 

يبلغ عدد المعاصر في البلاد التونسية 1610 معاصر منها 80% تعمل بنظام متواصل، كما تم بعث 200 معصرة بيولوجية عام 2019 تعمل بطاقة تحويل تبلغ 60 ألف طن في اليوم، منها 100 ألف طن لدى الديوان الوطني للزيت. 

وعلى مستوى الترويج، قدر معدل التصدير في العشرية الأخيرة  بـ 172 ألف طن زيت بمعدل عائدات بلغت 1150 مليون دينار. 

أصناف الزيتون في تونس 

الزيتون في تونس تراث متجذر في التاريخ، ويتميز بتعدد أصنافه وبخصائصه الفريدة، ومن بين الأصناف المعروفة في الزيت “شملالي” في الساحل التونسي و”الزلماطي” في جرجيس وجربة جنوب تونس، و”الزرازي” في تطاوين وولايات الجنوب، و”بسباسي” و”الشمشالي” في قفصة جنوب البلاد، و”الجربوعي” في الكاف وولايات الشمال الغربي، وهي جميعا تسميات عربية وبربرية ورومانية وقع تحريفها. 

صفاقس الأولى وطنيا في إنتاج الزيت

وتحتل ولاية صفاقس جنوب تونس، المرتبة الأولى وطنيا في إنتاج زيت الزيتون. وتمتد أشجار الزيتون في ولاية صفاقس على مساحة 364 ألف هكتار وهو ما يمثل 20%من المساحة الوطنية الجملية، كما يبلغ عدد أصول الزياتين 8,9 مليون أصل بما يمثل 10% من العدد الجملي الوطني ويبلغ معدل إنتاج  الجهة 201 ألف طن وهو ما يمثل 20% من معدل الإنتاج الوطني وتمثل صادرات صفاقس من زيت الزيتون ما يناهز 45 % من الصادرات الوطنية. 

زيت الزيتون والمناعة

قال عضو المجلس الوطني للنقابة التونسية للفلاحين فوزي الزياتي، إن أسعار زيت الزيتون ستشهد ارتفاعا العام الحالي بسبب الطلب العالمي خاصة بعد أن أثبتت الدراسات أن زيت الزيتون يحسن المناعة.

إذ توجه العالم نحو استهلاك زيت الزيتون منذ توصية منظمة الصحة العالمية في أول تقرير لها عام 1993، عن فوائده الصحية المتعددة في علاج أمراض السكر وضغط الدم وأمراض القلب.