تونس رأي

عندما “يُفنّد” معهد الإحصاء النبرة التفاؤلية للبنك المركزي التونسي

عبدالسلام الزبيدي 
لم تستثن إجراءات 25 جويلية وما تلاها البنك المركزي التونسي من عواصف التغيير. فتلك اللحظة الموصوفة عند معارضيها بالانقلاب، كان هدفها حسب صانعها قيس سعيّد رئيس الجمهورية والقائد الأعلى للقوات العسكرية حينها وأُضيفت إليها لاحقا الأمنية، حماية الدولة من الانفجار الداخلي. ومعنى هذا الانفجار في قاموس “صانع إجراءات 25 جويلية” هو توزّع سلطات القرار بين عدّة مؤسسات، ممّا يُفقد الدولة وحدتها والسياسات تناغمها والخطط نجاعتها وفعاليتها.
فقد تمّ تجميد مجلس النواب وحلّه، وإلغاء الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين، وتعليق عمل الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، وحلّ المجلس الأعلى للقضاء، وإخضاع الهيئة العليا المستقلّة للاتصال السمعي والبصري لعمليّة التآكل الذاتي المُفضي إلى الاضمحلال، وقضم المجال الحيوي لتحرّك الاتّحاد العام التونسي للشغل، وإضفاء الشرعية على تنحية القيادة المنتخبة للاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري، وحصر الاتّحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية في أفق الدفاع الذاتي، وتغيير تركيبة الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، وحلّ كل المجالس البلدية بجرّةِ مرسوم.
حتّى لا تنفجر الدولة من الداخل 
كان هذا الفعل السياسي السلبي تحقيقا لمشروع صانع التغيير تصحيحا لثورة 14 جانفي 2014، والتي غدت بمقتضى التصحيح ثورة 17 ديسمبر 2010. وهذا الفعل سلبي بمعنى الهدم لا التأسيس. فما تمّ هو تجميد، وإغلاق، وحلّ، وإخضاع، وقضم، وتنحية، وتغيير للمؤسسات سالفة الذكر التي كانت تشارك ممثّل الدولة وعنوان السيادة السلطات والصلاحيات، ممّا هدّد الدولة بالانفجار، وجعل اتّخاذ القرار صعبا ويبلغ أحيانا سياج الاستحالة.
إنّ مقولات التوازن بين السلطات، وتوزيع الصلاحيات، وتبادل الرقابة بين المؤسسات، تنتمي إلى ذروة ما أنتجه العقل الإنساني الليبرالي، في حين أنّ السلطة السياسية في تونس تعتبر أنّ هذا العقل الغربي منتج تلك المقولات هو في حقيقته استعماري ومزدوج المعايير وسارق للثروات وداعم لكلّ أشكال انتهاك سيادة الشعوب. وعليه فإنّ مراجعة وضع المؤسسات المفتّتة لسلطة القرار هو فعل ثوري ضمن المنطق الشعبوي التونسي، وليس تراجعا عن المكتسبات التي تمّ تحقيقها منذ 14 جانفي 2011.
لستُ في وارد التذكير أنّ الصراط الرئاسي سيؤدي إلى مركزة السلطة في يد شخص واحد، وإلى تحويل كل السلطات إلى مجرّد توابع لصاحب الشرعية والمشروعية. فقد كفانا رئيس الجمهورية قيس سعيّد عناء القيام بعمليات عقلية ومنطقية والتواءات وقياسات ومقارنات من أجل الوصول إلى هذه النتيجة. ألم ينجز رزنامة الانتخابات المختلفة منفردا؟ ألم يتكفّل بإصدار مراسيم غير قابلة للطعن؟ ألم يخطّ دستور 2022 بيمينه رافضا نسخة الخبراء الذين عيّنهم بنفسه؟ ألم يحوّل الحكومة وأعضاءها إلى مجرّد مساعدين؟ ألم يُخفّض منزلة التشريع والقضاء من سلطة إلى وظيفة تُنفِّذ وتُوَظَّف؟ ألم يصدر قبيل انعقاد الجلسة الأولى للبرلمان الجديد مراسيم انتخابية لا تحدّد قواعد الانتخاب فقط وإنّما تُرسي قواعد النظام السياسي القاعدي؟
ها أنّ كلّ المؤسسات العسكرية والأمنية والقضائية والتشريعية أصبحت تسبح في منطق الخضوع لصاحب الشرعية والمشروعية صانع لحظة 25 جويلية ومنقذ الدولة من الانهيار والانفجار. وها أنّ المؤسسات والمنظمات التي قضمت من الدولة بعضا من صلاحياتها عادت إلى مربّعها، تسير في مدار القرار السيادي الوطني ولا تتدخّل في شؤون تتجاوز اختصاصاتها، بعيدا عن مقولات نقابات العمّال إنّه لا أحد بإمكانه أن يحدّد مربّع تحرّكاتنا. فقد جاء من يُحدّد مربّع التحرّك فارضا رؤيته ومشروعه، وأقصى ردود الفعل تصريحات خجولة في ظل “النضال الصامت”.
انصهار البنك المركزي في سياسات الدولة
و”من الطبيعي” وفق هذه الخيارات السياسية أن ينضبط البنك المركزي التونسي لهذه السياسات العمومية التي يرسمها، وفق دستور 2022، رئيس الجمهورية لا شراكة له في ذلك إلاّ في مستوى الاستشارة أو التنفيذ. ويمكن إحصاء سيل من تصريحات سعيّد التي تضبط للبنك المركزي وضعه ومنزلته وصلاحياته بعيدا عن سكْرة الاستقلالية التي منحها له القانون 35 لسنة 2016.
ولعلّ تصريح يوم 5 فيفري 2024 الذي توسَّط رحيل محافظ وقدوم آخر كافٍ. فاستقلالية البنك المركزي، وفق قوْل سعيّد أمام قصر الحكومة ورئيسها أحمد الحشاني، قد “تمّت بناء على وصفات من الخارج، والهدف منها تفجير الدولة من الداخل”. وأضاف أنّ “تونس بلاد قويّة ولها إرادة ثابتة للحفاظ على اقتصادها وعلى التوازنات المالية، وأنّ دور البنك المركزي يكمن في دعمها والانسجام مع سياسات الدولة”.
على البنك المركزي أن يُكفِّر عن ذنوبه، وهي كثيرة. فالاستقلالية التي تمتّع بها لردح من الزمن وليدة وصفات من الخارج المتآمر، والتزامه بتلك الخاصيّة جعله، سواء عن وعي أو دونه، يساهم في العملية الممنهجة لتفجير الدولة من الداخل. إنّ الخارج بصدد تخريب البيت بأيادي الأبناء. ولن يكون التكفير إلاّ بالانصهار صلب سياسة الدولة والانسجام معها.
وبالفعل بدأت خطوات الانسجام والانصهار مع محافظ البنك المركزي السابق مروان العبّاسي الذي عابت عليه الطبقة السياسية الحاكمة قبل إجراءات 25 جويلية 2021 قبوله بتمرير قرارات رفضها سابقا ذات علاقة بالاقتراض من البنك أو بتسهيل عمليات مالية من شأنها المساعدة على الخروج من الأزمة الاقتصادية والمالية زمن الكورونا وقبلها.
ولم تشفع هذه الخطوات لمروان العبّاسي بالاستمرار في منصبه، بغضّ النظر عن حقيقة عدم رغبته في ذلك. ولم تتح له فرصة العهدة الثانية، فقد كان التعويض بعد أن أنهى عهدته الأولى وبلغ سنّ التقاعد، بأستاذ جامعي (الدكتور فتحي زهير النوري) ولج هو الآخر في مرحلة التقاعد.
وفي إطار الانسجام مع سياسة الدولة، لم يتمّ اتّباع إجراءات تعيين محافظ البنك المركزي وشروطه بدءا بجهة الترشيح وصولا إلى التصويت في مجلس نواب الشعب. فذاك عهد قد ولّى ونسخه دستور 2022 حتّى وإن بقي القانون ساريَ المفعول. فالدولة تحترم تراتبية النصوص، ومعلوم أنّ الدستور أعلى من القانون، ورغم ذلك فإنّه تمّ إلغاء دستور 2014 بمجرّد أمر.. ذاك منطق الاستثناء والانصهار ضمن إرادة ممثّل الإرادة الشعبية.
وبذلك ، دخل البنك المركزي البيت المنسجم للدولة وغير المهدّد بالانفجار بعد إدارة الظهر إلى تلك الاستقلالية المملاة من الخارج. ليعبر إلى مرحلة الاستواء مع باقي المؤسسات من حكومة وبرلمان وقضاء، فهي وظائف تُنفِّذ وتُوَظَّف. وفي إطار التكامل تمّ التشريع لاقتراض الدولة مباشرة من البنك المركزي، حيث تمّ منح تسهيلات استثنائية للحكومة بصرف 7 مليار دينار يقع سدادها على مدى 10 سنوات مع 3 سنوات إمهال دون توظيف أيّ فائدة.
تفاؤل البنك المركزي وواقعية معهد الإحصاء 
إنّ تغيّر وضع البنك المركزي ومنزلته غدا أمرا واقعا لا يمكن إنكاره، لكن يمكن تأويله أو تبريره. فيكفي رصد مواقف المحافظ الجديد من الاقتراض الداخلي قبل تسلّمه المهام حتّى ندرك أنّ الأدوات التبريرية جاهزة للانتقال من النقد إلى التفهّم والقبول.
رافقت العهدة الجديدة للبنك المركزي، سواء من حيث تبعات المفهوم الرسمي للاستقلالية والشروع في تنفيذه حماية للدولة من الانفجار، أو تأريخا بتسلّم المحافظ الجديد لمهامه، نبرة تفاؤلية لهذه المؤسسة المنسجمة مع سياسات الدولة عكس ما كان سائدا (طبعا وفق الفهم الرسمي لاستقلالية البنك). وفي هذا الإطار “بشّرنا” البنك يوم 22 مارس 2024 بالمؤشرات الاقتصادية المتاحة التي أظهرت تحسّنا نسبيّا لنمو إجمالي الناتج المحلّي في الثلاثي الأوّل لسنة 2024. وتمّ إحصاء المؤشرات الإيجابية على الصعيد الوطني التي “من شأنها أن تؤدي إلى تحفيز النمو”.
وما كان من مختلف وسائل الاعلام إلاّ التسابق في نقل الروح الإيجابية التي تضمّنها البيان. فتونس قادمة على تحسّن في النمو. لكنّ المعهد الوطني للإحصاء خيّب الانتظارات بأن صدح بأنّ هذا النمو لم يتجاوز الـ0,2% خلال الثلاثي الأوّل من العام الجاري.
صحيح أنّ البنك اعتمد على مؤشرات شهرين فقط، وصحيح أنّ معهد الاحصاء هو المصدر في هذا المجال، لكن من حقّنا التساؤل إذا كان مجلس إدارة البنك المركزي عاجزا عن التوقّع على مدى شهر واحد، فأيّ فائدة لما يُصدره؟.
شكّكت السلطات الرسمية مرارا وتكرارا في كفاءة الخبراء الموزّعين في وسائل الإعلام وفي موضوعيتهم وحيادهم، لأسباب عديدة من بينها أنّ أقوالهم لا تنسجم مع السياسات العامة للدولة. لتكون المؤسسات العمومية المنصهرة في الدولة هي المرجع والملجأ، غير أنّ ما شهدناه من توقّع في غير محلّه يجعلنا نطرح السؤال عن كلفة الانسجام والانصهار.