محمد بشير ساسي
في خطابه عن حالة الاتّحاد في جانفي من العام 1980، والذي جاء في أعقاب صدمات النفط في عامي 1973 و1979 وغزو الاتّحاد السوفياتي لأفغانستان، أعلن الرئيس الأمريكي السابق “جيمي كارتر” بعبارات خطيرة التهديد بفقدان الوصول إلى نفط الشرق الأوسط، قائلا إنّ “أيّ محاولة من قبل أيّ قوة خارجية للسيطرة على منطقة الخليج ستعتبر اعتداءً على المصالح الحيوية للولايات المتّحدة الأمريكية، وسيتم صدّ مثل هذا الهجوم بأيّ وسيلة ضرورية بما في ذلك القوة العسكرية”.
منذ ذلك العهد، أصبح هذا التعهّد معروفا باسم “عقيدة كارتر” وظلّ سمة مميّزة لسياسة واشنطن في الشرق الأوسط والخليج على وجه الخصوص، غير أنّ “الفضاء الحيوي” الذي لطالما تعاملت معه واشنطن بمثابة “الحديقة الإستراتيجية” -نظرا إلى احتوائها على إمكانات ضخمة من مصادر الطاقة، فضلا عن أهميتها الجيواستراتيجية والاقتصادية الحيوية- لم تعُد البقعة الجغرافية كما تعتقدها إدارة البيت الأبيض، حيث تُملي فيها على حلفائها في المنطقة ما يجب القيام به أو تجنّبه ولم تعد تملك فيه اليد الطولى لتوجيه بوصلة أولويات الشراكة معهم.
تغييرات إستراتيجية
ارتبط هذا الواقع الجديد -في علاقة الولايات المتّحدة بدول الخليج- ارتباطا وثيقا بالتحوّلات السياسية في ما أُطلق عليه “عصر مساعدة الذات في ما بعد شرق أوسط أمريكي”.
فمنذ عهد الرئيس الأسبق باراك أوباما، تغيَّر التقدير الاستراتيجي الأمريكي حيال منطقة الشرق الأوسط، وتراجعت أهميتها في استراتيجية الأمن القومي الأمريكي، وبذلك تغيّر منظور واشنطن في عهدي دونالد ترامب وجو بايدن أيضا لعناصر التهديد وقائمة الأولويات الأمريكية، التي بات تركيزها منصبّا على مواجهة التحدّي الصيني الصاعد وعلى روسيا، وعلى ضمان التفوّق الأمريكي الشامل عالميا خاصّة في الاقتصاد والتكنولوجيا الفائقة المدنية والعسكرية.
لقد تطلّب ذلك بالتأكيد إعادة توجيه الموارد والأصول الأمريكية والأولويات باتّجاه تخفيض البصمة العسكرية الأمريكية في الشرق الأوسط الكبير. فكان الانسحاب من أفغانستان وسحب القوات القتالية من العراق ورفع اسم جماعة الحوثي في اليمن من قائمة الإرهاب وإلغاء الرئيس بايدن أو تعليقه صفقات سلاح وقّعها سابقه دونالد ترامب مع كل من السعودية والإمارات وسعيه إلى التوقيع على اتّفاق جديد مع إيران بشأن برنامجها النووي، كلّها مثّلت بيئة دولية جديدة ومعادلة إقليمية مستجدّة، تحكمها قواعد متغيّرة بين اللاعبين الدوليين ولا تريد فيها واشنطن أن تكون “شرطي العالم”.
كما عوّلت أمريكا على نفوذها التّقليدي في المنطقة للضغط على الدول الخليجية الحليفة لتوقيع اتّفاقيات للتطبيع مع إسرائيل، بل كانت الخطة تجاوز عمليّة التطبيع ليصل الأمر إلى مرحلة تأسيس حلف يجمع الدول الخليجية وإسرائيل ومصر والأردن “ناتو عربي”، يكون في مواجهة حلف المقاومة الذي تتزعّمه إيران وأذرعها في المنطقة.
مأزق بايدن
ومع اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا، أدركت دول الخليج أنّ العلاقة مع أمريكا أضحت “بعيدة كلّ البعد عن سنواتها الذهبية وأنّها لم تعد ترى دورا للولايات المتّحدة في استقرارها والحفاظ عليها، ولم تتمكّن من الحصول على مساهمة أمريكية حقيقية في أمنها، كما زاد النزاع المسلّح في أوروبا الخلافات بين الجانبين وضوحا، وسلَّط مزيدا من الأضواء عليها، وأضاف إليها مزيدا من عوامل التباين في زوايا النظر والأولويات والمصالح.
في ذلك الوقت سقطت ورقة التوت، حيث اختار حلفاء الولايات المتّحدة في الخليج عدم الانضمام في حملة العقوبات المفروضة على روسيا وشكّكوا في الدوافع الأمريكية لمعاقبة موسكو بأدوات مثل تحديد سقف لأسعار صادراتها النفطية؛ لأنّها ستؤدّي على المدى البعيد إلى تحويل قوة تسعير النفط من البائعين إلى المشترين.
علاوة على ذلك، فإنّ حقيقة أنّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سيستفيد بشكل خاص من خفض الإنتاج لمواصلة جني الأرباح العالية التي يحتاجها لتمويل حربه في أوكرانيا والصمود في وجه العقوبات الغربية؛ تمنح الخلاف النفطي بين واشنطن وحلفائها الخليجيين بُعدا مرتبطا بالجغرافيا السياسية العالمية وأمن الطاقة.
وعكَس مأزق بايدن في ترويض السياسات النفطية الخليجية مأزقا أكبر يواجه الولايات المتّحدة في إدارة علاقاتها مع الحلفاء الرئيسيين في الشرق الأوسط، وتَبرز تركيا مثالا آخر على هذا المأزق حيث دفعت سنوات من سوء الفهم وتعارض المصالح الرئيس رجب طيّب أردوغان إلى قيادة بلاده نحو نسج علاقات أعمق مع روسيا وتبنّي سياسات حادّة مناهضة للغرب.
مصر أيضا التي كانت من بين الحلفاء المهمّين للولايات المتّحدة، فهمت جيّدا أنّها لا يُمكن أن ترهن مستقبلها بواشنطن إلى ما لا نهاية، فقد عملت على تعزيز مشترياتها العسكرية من روسيا.
نفوذ صيني-روسي
كانت النتيجة الحتمية الوحيدة لتلك الحسابات الأمريكية الخاطئة في الشرق الأوسط وتحديدا منطقة الخليج، استفاقة متأخّرة تجاه جغرافيا صار فيها النفوذ الروسي صريحا والدور الصيني مرشّحا لتقديم بديل للولايات المتّحدة في المستقبل.
وعلى الرغم من تأكيدات الولايات المتّحدة أنّ نفوذها في منطقة الشرق الأوسط لا يتعرّض للانحسار حاليّا، فإنّه يوجد إجماع بين الخبراء الأمريكيين على أنّ النظام الإقليمي آخذٌ في التغيّر فعلًا، وأنّ الولايات المتّحدة، وإن كانت ما تزال الفاعل الدولي الأهم في المنطقة، فإنّها لم تَعُد الفاعل الوحيد.
منذ العام 2015 كانت روسيا قد دخلت “خطّ المنافسة” في المنطقة عبر البوابة السورية، وبعد أربع سنوات تحوّلت الصين إلى أكبر شريك تجاري لدول مجلس التعاون الخليجي عبر اتّفاقات وشراكات تتجاوز قيمتها خمسين مليار دولار.
وكان الافتراض السائد أمريكيًّا حتى الإعلان عن إبرام الاتّفاق السعودي-الإيراني بوساطة صينية، أنّ الصين مهتمّة بتأمين مصالحها الاقتصادية في المنطقة فقط، وليست مهتمّة بمزاحمة الولايات المتّحدة في النفوذ السياسي والدبلوماسي.
لكن ثمَّة تساؤلات اليوم في هذا الشأن خصوصا في ضوء المناورات المشتركة التي أجرتها الصين مع كل من إيران وروسيا في المحيط الهندي، خلال مطلع عام 2022، وقد تكرّرت مثل هذه المناورات في عام 2023.
عمق الشراكة
وفي خطوة لرأب الصّدع شدّد الرئيس الأمريكي جو بايدن خلال القمة التي جمعته في مدينة جدة السعودية، خلال جويلية 2022، بقادة دول مجلس التعاون الخليجي، إضافة إلى قادة مصر والأردن والعراق، على أنّ الولايات المتّحدة لن تنسحب، ولن تترك فراغا تملؤه الصين أو روسيا أو إيران.
وزاد وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن خلال اجتماعه في الرياض الشهر الماضي مع وزراء خارجية دول مجلس التعاون، تأكيد أنّ الولايات المتّحدة موجودة في هذه المنطقة لتقول إنّها ما تزال منخرطة بعمق في الشراكة مع دول مجلس التعاون الخليجي والتي هي جوهر رؤية واشنطن لشرق أوسط أكثر استقرارا وأمانا وازدهارا.
ظلّت القراءة الأمريكية تميل إلى تفسير لجوء دول الخليج إلى الانفتاح على شركاء جدد بكونها “خطوة تكتيكية” أكثر منها مقاربة استراتيجية تستهدف إدارة بايدن، رغم تحذيرات الخبراء من إفراط الولايات المتّحدة في التركيز على منطقة المحيطين الهادئ والهندي لاحتواء الصين، وفي التركيز على أوروبا لاحتواء روسيا، وترك فراغات في مناطق أخرى من العالم مثل الشرق الأوسط والخليج خصوصا.
وتأكيدا لكون واشنطن ما تزال الفاعل الأبرز في المنطقة، أمنيّا واستخباراتيّا وعسكريّا، وحتى من ناحية صادرات السلاح مع احتفاظها بنفوذ اقتصادي كبير فيها بعد الصين، فقد قرّرت وزارة الدفاع الأمريكية “البنتاغون” أن تعزّز استخدامها الطائرات المقاتلة حول “مضيق هرمز الاستراتيجي” لحماية السفن من عمليات الاستيلاء الإيرانية، بعد شعور الولايات المتّحدة بقلق متزايد بشأن العلاقات المتنامية بين إيران وروسيا وسوريا عبر الشرق الأوسط.
بالإضافة إلى ذلك يقول مسؤولون في البنتاغون إنّ الولايات المتّحدة تدرس عددا من الخيارات العسكرية لمواجهة العدوان الروسي المتزايد في سماء سوريا الذي تصاعدت وتيرته منذ مارس الماضي، إذ ينبع من تنامي التعاون والتنسيق بين موسكو وطهران والنظام السوري لمحاولة الضغط على الولايات المتّحدة لمغادرة سوريا حتى تتمكّن إيران من نقل المساعدات الفتّاكة بسهولة أكبر إلى حزب الله اللبناني وتهديد إسرائيل وفق الرّواية الأمريكية.
الأمن البحري
ومعلوم أنّ إحدى أهم مصالح الولايات المتّحدة في الشرق الأوسط تعود إلى الأمن البحري، ولا سيما في مضيق هرمز الممر المائي الإستراتيجي الذي يعبر منه نحو خُمس كميات النفط المستهلكة عالميا وهو يشكّل 40% من تجارة النفط العالمية، كما يُعدّ أهم منفذ للدول العربية المطلّة على الخليج العربي، وتصدّر عن طريقه نحو 90% من نفطها.
ثمّة وعي أمريكي -ولو أتى متأخّرا- بأنّ هناك توجّها تتبنّاه دول الخليج بالاستمرار في سياسة “التحوّط الاستراتيجي” وتنويع الشراكات مع القوى العالمية، لأهداف سياسية واقتصادية، وأحيانا عسكرية، كما أنّ ثمّة مزاجا رسميا خليجيّا يتكرّس ويتنامى منذ سنوات، مفاده أنّ الولايات المتّحدة تريد الوصول إلى جميع المزايا التي كانت تقدّمها دول الخليج إلى الولايات المتّحدة والحلفاء الغربيين زمن الحرب الباردة مع الاتّحاد السوفياتي، رغم أنّ المظلة الدفاعية الأمريكية لدول الخليج زمن الحرب الباردة (الأولى) لم تعد مضمونة اليوم بالشمولية والكيفية والموثوقية التي كانت عليها زمن تلك الحرب الباردة.
ويعكس القلق الخليجي تقديرا أنّ الصعود الصيني اقتصاديا وتكنولوجيا إنّما يمثّل نمطا من الخروج من حالة الأحادية القطبية الأمريكية في النظام العالمي، واتّجاها نحو أشكال لم تستقر بصورة نهائية بعدُ من الثنائية أو التعددية القطبية، وبالتالي عدم قدرة طرف واحد على الاستفراد المطلق بالمشهد العالمي والتحكّم الكامل في تحوّلاته ومساراته.
وهذا الفهم المتعلّق بتغيّرات توزيع القوة في المشهد الدولي، إلى جانب تحوّلات أولويات واشنطن في الشرق الأوسط وتجاه شركائها الخليجيين، يدفع دول الخليج إلى محاولة تجنّب الاصطفافات الحادّة والمكلفة (التي يهيمن عليها منطق “من ليس معنا فهو ضدّنا”)، وإنّما تحاول الإبقاء على علاقاتها التجارية والسياسية المتنامية مع بيجين وموسكو، إلى جانب علاقتها الاستراتيجية والجيو-أمنية مع الولايات المتّحدة والدول الغربية، وهي “وصفة” صعبة، لكنها تعبّر عن استجابة دول الخليج للتحوّلات في البيئة الاستراتيجية الدولية وفي النظام الدولي، الذي تُسرّع إفرازات الحرب في أوكرانيا في اتّجاهه نحو الثنائية القطبية أو التعدّدية.
عمُوما ينطلق التقدير الخليجي من فكرة أنّ دول الخليج التي استثمرت على مدى سنوات في شراكتها التجارية مع الصين وروسيا لديها ما تخسره، في حال تنامت حدّة الاصطفافات في الساحة الدولية إلى درجة الطلب الأمريكي من الشركاء الخليجيين بالاختيار بين واشنطن وبيجين أو بين واشنطن وموسكو.
إنّ السعي نحو تجنُّب الاستقطابات الحادّة بين اللاعبين الدوليين يخدم رؤية دول الخليج لتنويع اقتصادها بعيدا عن الاعتماد على صادرات النفط والغاز الطبيعي، ولتأكيد نفسها مُنافِسا اقتصاديا عالميّا قادرا على البقاء.
في النهاية، لا يمكن فهم التحوّلات في الفكر الأمريكي في ما يتعلّق بمنطقة الخليج، بعيدا عن الثورة التي أدخلها دونالد ترامب في الفكر الأمريكي بشأن ضرورة تحمّل الشركاء والحلفاء أثمان الحماية والأمن وتكاليفهما. وما طرحته إدارة بايدن حول دور الشركاء ليس سوى ترجمة “مهذّبة” لمقولات ترامب بطريقة الحزب الديمقراطي، وهو ما ينتهي إلى النتيجة نفسها بزيادة أعباء الحلفاء وتكاليفهم، ولكن دون أن تقبض الولايات المتّحدة أثمانا مادية ومالية، على غرار فترة ترامب، وإنما أثمانا تدفع عبر زيادة حجم المشاركات في الخدمات واللوجستيات مثلما حدث في أفغانستان.
ويبدو أنّ أفكار إدارة بايدن جاءت حلّا وسطا، بين موقف ترامب الداعي لدفع ثمن الحماية، وأفكار داخل إدارة بايدن دعت إلى التخلّي عن الحلفاء، وأنّه بعد فترة من التفكير -اتّسمت بالغموض والتردّد- انتهت إدارة بايدن إلى هذه النتيجة الوسط، بعد إعادة اكتشاف أدوار الحلفاء في أفغانستان، وبعد إدراك النتائج السلبية التي يمكن أن تترتّب على اتّجاههم نحو روسيا والصين.