للمولد النبوي الشريف في تونس مكانة خاصة، فالاحتفالات بهذه المناسبة الدينية لها طابع مميّز لدى التونسيّين، إذ تستعد العائلات التونسية لهذه المناسبة قبل أيام، وتخصّص لها تحضيرات مميزة كغيرها من المناسبات الدينية.
وما يزال أهالي تونس محافظين على عادات وتقاليد توارثوها منذ عقود، فإضافة إلى الاحتفالات التي تقام في دور المساجد، يتمّ يوم المولد النبوي ختان الأطفال وإتمام الخطوبات أو ما يعرف بقراءة الفاتحة وإهداء الخطيب لخطيبته ”الموسم”.
“عصيدة الزقوقو”.. عروس الاحتفال
تعتبر أكلة “عصيدة الزقوقو” من أهمّ الأكلات الفاخرة في تونس، يتم طهيها بمناسبة الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، هي أكلة طعمها حلو، تُزين بما لذ وطاب من أنواع الفواكه الجافة، ورغم القيمة الغذائية التي تحظى بها ومذاقها العذب، فإن لظهورها طرافة وتاريخا ارتبطا بفترة مجاعة عاشها الشعب التونسي.
“عصيدة الزقوقو” تعتمد أساسا على ثمرة “الزقوقو”، وهي ثمرة الصنوبر الحلبي التي تكون في شكل مخاريط حاملة للحبوب يتم تجميعها واستخراج ثمارها باستعمال الأفران التقليدية.
وتمتدُّ غابة الصنوبر الحلبي على مساحة تقدر بـ300 ألف هكتار في ولايات الكاف وسليانة والقصرين (شمال غرب تونس).
ويتكبّد منتجوها مشقّة كبرى في تسلّق الأشجار والتعرّض للمخاطر في قص المخاريط الحاملة للحبوب وتجميعها واستخراج ثمارها.
وتعتبر ولاية سليانة أهم مركز إنتاج وتخزين لـ”الزقوقو” إذ يبلغ إنتاجها حوالي 60 طنا سنويا من حبوب “الزقوقو” التي يتم جمعها في هذه الولاية من غابات تمتد على مساحة 60 ألف هكتار تنتشر أساسا في مناطق (برقو وكسرى ومكثر وسليانة الجنوبية وبوعرادة وقعفور).
ويضطلع إنتاج مادة “الزقوقو” أو ثمار الصنوبر الحلبي بدور اقتصادي واجتماعي كبير، إذ يمثل مورد رزق لآلاف العائلات بشكل مباشر وغير مباشر. ويمكن جني 3 كغ من حبات الزقزقو من 100 كغ من مخاريط الصنوبر الحلبي.
الزقوقو.. المجاعة أٌم الاختراع
حسب المؤرخ التونسي عبد الستار عمامو فإنّ استعمال “الزقوقو”، قد ظهر في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين.
يقول عمامو، في تصريح لموقع “الميادين.نت” إنّ اللجوء إلى استعمال هذه الثمرة تم خلال سنوات الجفاف التي تلت ثورة علي بن غداهم سنة 1864، وانتشرت خلالها المجاعة بسبب تراجع محاصيل الحبوب (القمح والشعير و”الدرع”).
وقد اضطرت عدة عائلات تونسية إلى اعتماد تلك المادة لتعويض النقص الحاد في الحبوب، ونظرا إلى نكهتها الطيبة فقد أصبحت أكلة يتفنن التونسيون في إعدادها بإضافة الفواكه الجافة.
ويشير عبد الستار عمامو إلى أنه بعد خروج البلاد من فترة الجفاف ظل استعمال الزقوقو يعيد إلى الأذهان المجاعة والفقر، وحتى عندما بدأ استعماله يتسرب شيئا فشيئا إلى العائلات التونسية، ظلت العائلات الكبرى خاصة في العاصمة (تسمى البلْدية) ترى في استعماله عيبا.عرفت عصيدة الزقوقو تطورات كبيرة من ناحية طرق إعدادها، حيث أصبحت تضاف إلى عجينة الزقوقو فواكه جافة كاللوز والبندق والفستق، بدأت هذه الأكلة تأخذ صدى كبيرا إلى أن انخرطت العائلات الثرية وأصبحت تتفنن في إعداد العصيدة التي كانت ترى في أمر استهلاكها عيبا.
تونس البلد الوحيد الذي يستهلك “الزقوقو”
أكّد المؤرخ عبد الستار عمامو أن تونس هي البلد الوحيد الذي يستعمل الزقوقو، ويصنع منه “العصيدة”، وتحدث في هذا الإطار عن طرفة حدثت، حين تراجع إنتاج الزقوقو في تونس، ومع اقتراب المولد النبوي الشريف والإقبال الكثيف على هذه المادة اضطرت الحكومة التونسية إلى استيراد كمية مهمة منه من لبنان، ما جعل الحكومة اللبنانية تستفسر عن السبب وأبدت استغرابها الشديد عندما علمت أنّ هذه المادة هي أكلة مفضّلة لدى التونسيين.
واليوم تتصدّر عصيدة الزقوقو لائحة الأكلات المحلية في الاحتفالات الدينية، علما أنّ استهلاكها متفاوت بين جهات البلاد التونسية، حيث أصبحت مادة أساسية في أغلب الجهات الشمالية للبلاد، لكن استعمالها في الجنوب التونسي والوسط (القيروان) مازال محدودا، حيث تستعمل العصيدة البيضاء في المولد النبوي الشريف وهي عصيدة مكونة من القمح وتزين بالعسل والسمن.
أكلة الفقير أصبحت مكلفة جداهذا العام يبدو الأمر مختلفا بعض الشيء، فالأكلة التي طالما ارتبطت في ذاكرة التونسيين بالمجاعة، أصبحت اليوم مكلفة جدا، ومن المنتظر أن يستغني أغلب التونسيّين عن هذا الطبق، هذه السنة، على أن يتمكّنوا من تحصيل العصيدة “البيضاء” التي أصبحت هي أيضا مهدّدة بالغياب عن موائد الاحتفالات بالمولد نظرا إلى فقدان مادتي “الفارينة” (الطحين) والسكّر والأزمة التي شهدتها الزبدة إضافة إلى ارتفاع أسعار زيت الزيتون.
الإقبال على شراء “الزقوقو” وبقيّة المكوّنات سجّل تراجعا مقارنة بالسنوات الماضية وذلك راجع إلى ارتفاع الأسعار.
وأرجع، عضو المكتب التنفيذي للاتحاد التونسي للفلاحة، طارق المخزومي، سبب ارتفاع أسعار الزقوقو إلى أن محصول الموسم الحالي شهد تراجعا بحوالي 30٪ وذلك بعد أن بلغ السنة الماضية 100 طن. وأضاف في تصريح إذاعي، أنّ الأسعار شهدت ارتفاعا بـ5 دنانير، وذلك نظرا إلى تراجع الإنتاج، مشيرا إلى أن الأسعار تتراوح بين 27 دينارا و31د في جهة مكثر التي تعتبر من المناطق المنتجة لهذه المادة باعتبار أن ولاية سليانة تتصدّر الولايات المنتجة فهي تساهم بأكثر من 50٪ من الإنتاج الوطني خاصة في كسرى ومكثر، تليها ولايتا جندوبة والقصرين، مرجّحا مزيد ارتفاع الأسعار كلما اقترب موعد المولد النبوي الشريف. كما ارتفعت أسعار الفواكه الجافة التي توضع للتزيين.
وفي عمليّة حسابيّة بسيطة بيّن موقع “تونيسكوب” التكلفة الباهظة من أجل إعداد 500 غ من “عصيدة الزقوقو”، مشيرا إلى أن هذه الأكلة التي تتكوّن أساسا من “الزقوقو” والدقيق والفواكه الجافة بأنواعها ستتراوح تكلفة “الرطل” منها بين 100 و120 دينارا.