عرب

عبود بطاح.. إعادة تصريف فعل “الصمود الساخر” من غزة

“من هنا ومن غزة ننشر لكم آخر التطورات”..كيف حول ناشط فلسطيني الهاتف إلى أداة توثيق ليوميات العدوان عبر “إنستغرام”؟

“هذا الاحتلال يخشى الشعراء والمفكرين والأصوات التي تعري جرائمه وانتهاكاته أكثر من الفدائيين”، تترجم هذه العبارة التي تنسب إلى شاعر فلسطين الكبير محمود درويش أحد  أبعاد الصراع مع الكيان، فمعركة الحقيقة الساعية إلى نقل الصورة الفعلية لما يحدث في الأرض المحتلة، تثير رعب المحتل وأجهزته الأمنية والاستخباراتية، بالنظر إلى قوتها وتأثيرها في الرأي العام العالمي، بما يشكل خطرا على “سرديته المزعومة” في مقابل الرواية الفلسطينية.

معتقلو 25 جويلية

حمل لفيف من مفكري فلسطين ومثقفيها وشعرائها، على غرار غسان كنفاني، درويش، سميح القاسم، جبرا إبراهيم جبرا، وإبراهيم طوقان، لواء معركة “الحقيقة والكلمة الحرة” في العقود التي أعقبت نكبة فلسطين العام 1948، وسطروا بأقلامهم وأرواحهم وكلماتهم شهادات جيلهم وروايته للتغريبة الفلسطينية المعاصرة، ما جعل من أعمالهم الأدبية ومقالاتهم التي تصدرت الصحف العربية والغربية، “كابوسا إعلاميا” عجزت أجهزة الكيان الدعائية عن مواجهته، ما دفعه إلى استهداف “الأصوات المقاومة” وإسكاتها، عبر  الاعتقال والملاحقات والاغتيالات.

معركة الصورة على “السوشيال ميديا”

فتحت النقلة الرقمية والتحولات التكنولوجية المتسارعة، مجالا جديدا أمام “الأصوات الفلسطينية المقاومة” في مواجهة التعتيم واغتيال الحقيقة وسجنها، عبر منصات التواصل الاجتماعي، و”السوشيال ميديا”، والذي تحول منذ السابع من أكتوبر 2023، إلى أرضية خصبة للفيف من الناشطين وصناع المحتوى الفلسطنيين على فيسبوك و”تيك توك”، ممن انخرطوا في توثيق يوميات العدوان بهوياتهم وأصواتهم، ناقلين الواقع الميداني والوضع الإنساني في القطاع، فباتوا خلال أشهر معدودة نجوما وأبطالا لدى الجمهور العربي على منصات التواصل، وأضحت عباراتهم وسوما موثقة تختزل خطابهم العفوي وتحديهم للاحتلال، وأسلوبهم الفذ على بساطته في نقل زوايا مختلفة وشاملة، ليوميات الصمود والمقاومة في غزة.

كان من الطبيعي في ظل هذا الحضور الطاغي لهؤلاء الناشطين، أن يتحول خبر اعتقال الناشط الغزي “عبود بطاح” لعدة ساعات من قبل قوات الاحتلال قبل الإفراج عنه، إلى عنوان رئيسي يحتل شاشات القنوات والمواقع الإخبارية، ويجسد بوضوح “الصداع” الإعلامي والدعائي الذي يشكله عبود وأمثاله من المدونين للكيان.

وكان رئيس المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان رامي عبده، قد أفاد في وقت سابق الجمعة، أن قوات الاحتلال احتجزت عبود وقامت بالتنكيل به قبل أن تقتاده إلى مكان غير معلوم، معبّرًا عن قلق حقيقي على سلامته.

عبود وصف تجربة الاعتقال والتنكيل والتعذيب التي تعرض إليها في منشور عميق اختزل في كلمات قليلة كل مجلدات البلاغة.

وكتب الناشط الفلسطيني تدوينة أرفقها بصورة عشرات المدنيين الفلسطينيين أثناء توقيفهم من قبل قوات الاحتلال وتجريدهم من ملابسهم: “نعم كنت من هؤلاء الرجال وأنتم تعرفون من الرجال الحقيقيون”.

“أقوى مراسل في العالم”

يشتهر عبد الرحمان بطاح، المعروف باسم “عبود”، بتعليقاته المميزة التي تحولت إلى “لازمة كلامية” يصدر بها فيديوهاته، حتى باتت الأكثر تداولا على غرار: “من هنا ومن قطاع غزة ننشر لكم آخر التطورات”، و”أسعد الله صباحكم ومساءكم بكل خير”.

أما تعبيره الطريف “الوضع آيس كوفي على الآخر”، فأضحى بدوره علامة مسجلة، تنافس عبارات المراسلين الميدانيين.

أعاد عبود تصريف فعل الصمود ومفهومه، من خلال جرعة التحدي المعنوية التي ينقلها باستعمال هاتفه، مواكبا قصف الاحتلال بتعليقاته الساخرة.

إطلالات عبود تحولت إلى جزء من الحرب النفسية والإعلامية، مكرسة تفوقا فلسطينيا في توظيف “السوشيال ميديا”، لتوثيق الوضع الميداني وواقع المدنيين بابتسامة تحد متفائلة.

روح الفكاهة اللاذعة لدى الناشط الفلسطيني تتجسد في مختلف التفاصيل، بما في ذلك صفحته على منصة “إنستغرام”، والتي يقدم فيها نفسه بأنه “أقوى مراسل في العالم لعام 2023″، بفضل أكثر من 4 ملايين متابع لمنشوراته.

حول عبود سطح منزله في مخيم جباليا شمال قطاع غزة، إلى “استوديو ميداني” بخلفية واقعية مثقلة بمشاهد الدمار لبث فيديوهاته اليومية عن أخبار غزة، قبل أن ينتقل مؤخرا إلى مستشفى كمال عدوان لتقديم رسائله المصورة من هناك، حيث قوبل حضوره  بدعم وتفاعل واسع بما في ذلك الصحفيين الذين يوجدون في محيط المستشفى وداخله، ما أكسبه لقب “أصغر مراسل صحفي في العالم”.

حولت الشهرة الواسعة التي اكتسبها الناشط الفلسطيني رسائله ومنشوراته إلى منبر للطواقم الطبية في مستشفى كمال عدوان، عبر توجيه نداءات استغاثة بشأن الوضع في المستشفى الذي كان تحت مرمى القصف المستمر، خلال الأيام الماضية.

معركة الصورة في غزة التي يشكل عبود أحد ركائزها، تحولت إلى رافد حيوي للدور الذي يضطلع به المراسلون الميدانيون، إذ عبرت بواقعية شديدة القرب إلى وجدان المتلقي العربي، وتغلغلت ببساطتها المجردة في نفسيته، ناقلة صورة المأساة الإنسانية في غزة بطعم الصبر والصمود، كأنها تردد على لسان الشهيدة شيرين أبو عاقلة: “بدها طول نفس.. خلي المعنويات عالية”.