ثقافة

عائشة المنوبية … التونسية التي اخترقت حلقة التصوف الرجالية

فاطمة الأحمر

السيدة المنوبية أو “للا السيدة المنوبية” كما يحب التونسيون مناداتها، امرأة حفرت اسمها في أعماق الذاكرة التونسية وتاريخها.
هذه الولية الصالحة التي ترقد في ضريحها المقام في ولاية منوبة شمال تونس، تقول الخرافات الكثير عن قوتها الخارقة في علاج المرضى. اخترقت عالم التصوف في تونس حين كان حكرا على الرجال فقط على مر السنين، عاشت هائمة عاشقة لخالقها، تبحث عن سمو ذاتها ونبل إنسانيتها. فكانت ملجأ للمظلومين والمستضعفين والفقراء والمحتاجين، ومن أشد أنصار المرأة في تونس.


من هي السيدة المنوبية؟

ولدت السيدة عائشة المنوبية في القرن الـ 13 وتحديدا عام 1204 في إحدى القرى بمنطقة منوبة ضواحي تونس، بداية العهد الحفصي الذي شهد عديد الجوائح الطبيعية وكثرة المجاعات، والذي تميز بظهور المدارس الصوفية.


السيدة المنوبية ابنة رجل الدين والإمام ومدرس القرآن عمر الشيخ عمران ابن الحاج سليمان المنوبي المعروف بـ “سيدي عمر”. نشأت على حب فعل الخير ونصرة الضعفاء وإعانة المحتاجين، فقد كانت في غاية الجمال وعلى خلق عظيم وذكاء حاد وحدس استثنائي وهو ما جعل منها امرأة مميزة بكل المقاييس حسنة الخلق والأخلاق.

وبالإضافة إلى كل هذه الميزات، شجعها والدها على التعليم وقام بتعليمها اللغة العربية إلى جانب لغتها الأم الأمازيغية وكذلك علوم القرآن. 


جميع النساء من بنات عصرها لم يفكرن في مزاولة تعليمهن والتفتح على العلوم، إذ كان التعليم في العهد الحفصي حكرا على أسياد القوم والأغنياء، بالإضافة إلى بعض النساء من الأسرة الحاكمة. لكن نبوغ عائشة جعل منها امرأة مميزة ومكنها من لقاء أشراف القوم في ذلك الوقت على غرار الأمير الحفصي أبي محمد عبد الواحد.


وانتقلت عائشة إلى تونس لتلقي العلم وتعلمت على يد أبي سعيد الباجي وتقربت من أبي الحسن الشاذلي وهو الذي أصبح فيما بعد معلمها الروحي بعد أن تأثرت به وبمنهجه الديني والتقت عديد الشخصيات التي رسمت تاريخ التصوف في تونس.


اختلاف السيدة المنوبية لم يكن فقط في ما يتعلق بالتعلم والتدين، فقد كانت تتجول مثل الرجال في الشوارع والأسواق في زمن كانت فيه جميع النساء لا يغادرن بيوتهن قط وهو ما عرضها للانتقاد الشديد ومعارضة الفقهاء المسلمين لها، هذه المرأة تحدت البنى الفكرية التقليدية حتى إن أحد الفقهاء المتشددين دعا إلى رجمها.


حاول والدها تزويجها من أحد أقربائها لكنها استطاعت التحرر من هذه القيود رغم أن النساء قديما لم تكن لديهن القدرة لا على الاختيار ولا تقرير مصيرهن وكن مرغمات على الانصياع وراء الأوامر.


تحدث عن رفضها للزواج الحاج العربي الغربي في كتابه “مناقب السيدة عائشة المنوبية” الصادر عام 1344 قائلا “وكانت سيدتي عائشة المنوبية جرى لها أمر عجيب يعتقده الصالح والجاهل، نُقل أنها كانت بنت إثنى عشر سنة وهي تلوج في شوارع منوبة فعرضها الخضر عليه السلام وهو من الشخصيات المذكورة في سورة الكهف في صفة ولد صغير وقال يا عائشة نخطبك من عند أبيك وناخذك بالسيف أنت منزلة في زمامي منذ ثلاثة آلاف سنة، فنهرت في وجهه ومشت لأبيها وقالت له يا أبت عرضني رجل وقال لي كذا وكذا وأنا خفت منه وهو قال لي ناخذك بالسيف، فإذا بعمها داخل في الباب فقال له أبوها اعزم خذ امرأة ابنك ألم تعلم أن هذا الزمان فاسد وأنا والله خائف عليها من عوائق الزمان (…) وكانت السيدة عائشة واقفة فالتفتت لابن عمها وقالت له أنت تحب أن تاخذني (تتزوجني) إن شاء الله تموت غدا عند الضحى فضحك الناس منها، فلما كان نصف الليل أعطاه الله وجعا على سرته فبقي يطارده حتى الضحى ومات رحمه الله”.


سيدة التصوف 

لم تثنها هذه الانتقادات والاعتراضات المتواصلة عن مواصلة طريقها حتى تمكنت من فرض صلاحها والاعتراف بولايتها، ومن هنا حصلت على لقب “السيدة” مثل الرجال الذين يمنحون لقب “السيد” في عالم الصوفية. هذه المرأة الاستثنائية كانت تتكلم مع الرجال دون وضع نقاب أو تكون مخفية الوجه وكانت تخطب فيهم بكل جرأة، وهو ما مكنها من أن تصبح محط أنظار أمراء ذلك العصر والسعي للتقرب منها بفضل مكانتها المؤثرة في المجتمع. 


تصرفات السيدة ودعوتها إلى التزهد وحديثها عن عقاب الظلم وتحقيق العدالة وأن الحب الإلهي لم يكن حكرا على الرجال فقط بل على النساء أيضا، ساهم في ذياع صيتها في كل أرجاء البلاد وخارجها ووجود النشاط النسوي في تلك الفترة. ويقال إنها أمت الرجال للصلاة أيضا.


العاشقة المتصوفة

فاقت الرجال هياما وحبا بالحضرة الإلهية لذلك لُقبت بـ “العاشقة المتصوفة”، وكانت ولية من الصالحين وتقول “أنا رأيت أبا الحسن الشاذلي وأعطاني خاتمه من إصبعه وقال لي: أنا أوليتك طريقتي”، وقالت: “رأيت الشاذلي مرة أخرى وأعطاني علمه وصبره”. 

وتشير بعض الروايات التاريخية إلى أنها كانت تشتري العبيد التونسيين الذين كانوا يُرسَلون إلى إيطاليا فقط وتطلق سراحهم.

للا السيدة كانت امرأة استثنائية بكل المقاييس وأعطت روحا وتصورا جديدا لمعنى التصوف، فلم تكن زاهدة تاركة الدنيا بل كانت مقبلة على الحياة متحررة في فكرها سابقة عصرها. 

بصمة في الذاكرة الشعبية التونسية

السيدة المنوبية تركت إرثا وبصمة محفورة في الذاكرة الشعبية التونسية وفي أذهان التونسيين فالعديد منهم يقصدون مزارها القائم في منوبة للتبرك بها خاصة النساء اللواتي يتأخرن في الزواج أو الحمل.

كانت السيدة تدعو ربها في وقت الضحى قائلة: “أنت يا دليل الحيرانين، أنت يا مطمئن الوجْلانين، أكرمني برؤيتك، واجعلني أُدرك يقين وجودك”، فاستجاب الله لدعائها وتوفيت في شهر أفريل/ أبريل عام 1267 عن عمر يناهز 63 عاما.