ظهور الملاكمة في تونس…يهود ومسيحيون ومسلمون على حلبة واحدة
tunigate post cover
رياضة

ظهور الملاكمة في تونس…يهود ومسيحيون ومسلمون على حلبة واحدة

2021-01-04 14:46

لطفي النايب


لم تكن تونس نكرة في عالم الرياضة النبيلة،  قصة الملاكمة في تونس عمرها أكثر من 100 عام، انتشارها سلك مسالك جميلة، تطورت لتصنع بطولات عالمية، ناهيك عن جمهور تونسي عشق محمد علي وتايسون. لكن كيف ظهرت الملاكمة في تونس أول مرة؟ وأين؟

الملاكمة… رياضة الشعب

قد يستغرب البعض القول بأن تونس دولة رائدة في رياضة الملاكمة منذ مطلع القرن العشرين وإن الملاكمة كانت الرياضة الأكثر شعبية بين الجماهير.

نشأت الملاكمة التونسية في الأحياء الشعبية للعاصمة، ساعدها في ذلك تقارب المستوى الاجتماعي للسكّان وبروز شبّان موهوبين مولعين بالفن النبيل. انتشرت الملاكمة بداية في الأحياء من باب الهواية وكانت لعبة مجتمعية بامتياز فكانت النزالات في مختلف الأحياء تشهد إقبالاً جماهيرياً كبيراً من مختلف فئات الشعب.

الفسيفساء الدينية والثقافية التي ميّزت المجتمع التونسي حينذاك في بداية القرن العشرين ساعدت على بث الحماسة في نفوس محبي رياضة الملاكمة فكان ملاكمون يهود ومسيحيون ومسلمون يتنافسون بشراسة بعيدا عن النعرات الدينية ولم يكن للنزال طعم إذا غاب هذا الخليط الديني الفريد. كان التنافس ودياً في إطار التعايش رغم حدّة المنافسة فكانت الملاكمة سبباً في احترام الاختلاف الديني والتعود على التعددية التي لم تكن مجرد شعار.

حلبات في البطحاء ( جمع ساحة) ومعارك حقيقية بين الملاكمين الشبّان أفرزت أبطالاً على غرار مسعود غيث شُهر « باقندا » وحسن الكرّاش وغيرهم.

قاموس شعبي مقتبس من الملاكمة

شدّة تأثر التونسيين برياضة الملاكمة وشغفهم بها جعلهم يقتبسون منها بعض المفردات والأمثال الشعبية التي أصبحت دارجة في الحياة اليومية للتونسي فنسمي اللكمة: « بالبونية وضربة بين النواظر وتحت الأذنين. »

كما يتداول مثل « اذا وكّلت شبع وإذا ضربت وجّع »، في إشارة إلى شراسة الملاكم في النزال.

كما ترسّخت أهازيج الجماهير وحماستها في التشجيع فيردد البعض: « يا عمارة طيّحو » نسبة إلى البطل عمارة بوخريص حين كان يُسقط منافسيه بالضربة القاضية.

الملاكمة أكبر من كرة القدم

الأسماء التي أنجبتها تونس في مجال الملاكمة والنتائج التي تحقّقت تعكس تفوق الملاكمة على كرة القدم في استقطاب الجماهير. في 31 جويلية سنة 1913 لعب مسعود غيث أوّل نزال رسمي في تونس، ثم البطل حسن الكرّاش في نفس السنة.

وفي الثلاثينيات برز اسم تونسي يهودي من منطقة الحفصية بالعاصمة يدعى فيكتور بيريز أو « يونغ بيريز »، خطف الأنظار مبكراً بالفوز ببطولة العالم في وزن الذبابة وهو في سن 20 عاماً فقط عندما انتصر بالضربة القاضية على منافسه الأميركي فرانكي خينارو فكان أصغر بطل عالم في تاريخ الملاكمة ولا يزال إلى اليوم.

ولم يكن بيريز أو الكرّاش أو “باقندا” أسماء أتت بالصدفة في الملاكمة التونسية، بل أنجبت حلبات الأحياء الشعبية أبطالاً كثيرين منهم: سيمون يعيش الملقّب « بأمير الحفصية«  والمالطي غراتيان تونا وفيليكس بالرامي والرزقي بن صالح والصادق البحري.

ريادة تونس في عالم الفن النبيل تواصلت بعد الاستقلال فأصبحت الملاكمة قاطرة الرياضات الفردية وأبرز ممثل لتونس في المسابقات الدولية فكانت أول رياضة تهدي تونس ميدالية أولمبية، كان ذلك في ألعاب طوكيو سنة 1964 بفضل البطل الراحل الحبيب قلحية. ثم جاء البطل عمارة بوخريص في الألعاب المتوسطية مرورا ببطلي العالم توفيق البلبولي وكمال بوعلي وصولا إلى أولمبياد أطلنطا سنة 1996 وميدالية برونزية ثانية توشّح صدر الملاكمة التونسية بفضل فتحي الميساوي.

يقول الحكم الدولي في الملاكمة والإعلامي حلمي ساسي في تصريح لبوابة تونس: إن من بين العوامل التي ساهمت في تطوّر رياضة الملاكمة في تونس وتمتعها بشعبية جارفة هو بروز أبطال عالميين على غرار محمد علي كلاي ومايك تايسون وفورمان وهوليفيلد الذين أثثت نزالاتهم الشهيرة سهرات التونسيين المولعين.

صيت تونس في عالم الملاكمة ظهر كذلك من خلال شخص الحكم الدولي التونسي الراحل نور الدين عدالة بصفته قاضياً رئيساً في نزال القرن بين الأسطورة محمد علي كلاي وجورج فورمان بكنشاسا بالكونغو سنة 1974 وحضور حكّام تونسيين في بطولات عالمية ودورات أولمبية.

وما يدعّم ذلك وفق منشورات حلمي ساسي وجود علم تونس ضمن الشعار الرسمي لأغلى أحزمة الملاكمة المقدّم من المجلس العالمي للملاكمة World Boxing Council.

وحسب نفس المصدر، فإن تونس استقبلت المؤتمر الحادي عشر للمجلس العالمي للملاكمة سنة 1975، ما يعكس مكانتها  في عالم الفن النبيل.

ملاكمة تونس تسقط بالضربة القاضية

بعد الريادة وصولات الملاكمين التونسيين على حلبات الملاكمة العالمية، بدأت تنطفئ شعلة هذه الرياضة مع بداية القرن 21. وعلى الرغم من ظهور بعض الأسماء ذات مستوى مرموق مثل محمد الصحراوي وسامي الجندوبي، إلا أن الوضع الذي تعيشة الملاكمة التونسية اليوم يتناقض وبداياتها في القرن الماضي.

يقول الحكم الدولي حلمي ساسي: لم تجار تونس التطوّر الذي عرفته رياضة الفن النبيل في العالم فنيا وعلميا ولوجستيا، فوجدت نفسها متأخرة جدّا وخسرت اسمها بين روّاد الرياضة.

ويضيف محدّثنا قائلاً: « الملاكمة التونسية غلبت عليها الحسابات الشخصية والصراعات والتهافت على قضاء المصالح الشخصية في الهياكل الجامعية. لم توضع خطط لتطوير الملاكمة والنهوض بها لاستعادة أمجادها ولم تهتم وزارة الرياضة بإرساء بنية تحتية تليق برياضة فاق عمرها قرن من الزمن في تونس. »

النتيجة اليوم تراجع كبير في عدد المجازين في الملاكمة إذ لا يتجاوز عددهم 2000 مجاز و50 جمعية رياضية، بطولة ضعيفة هجرتها الجماهير وحوافز مخجلة، من المضحكات المبكيات حصول بطل تونس في رياضة الفن النبيل على جائزة قيمتها لا تتعدى 100 دينار.

مشاكل الملاكمة التونسية ظهرت للعلن منذ سنوات. فالرياضة التي كانت تذاع أخبارها مرصعة بالتتويجات والإنجازات أصبحت محلّ تندّر فهي رياضة الفساد المالي وسوء التصرّف الإداري الذي أدى على إلى حلّ عدّة مكاتب جامعية مُسيّرة للرياضة  السنوات الأخيرة.

من عيوب ملاكمة تونس اليوم أن القائمين عليها منذ سنوات لم يعملوا على استغلال الإرث الكبير وتأسيس مدرسة الملاكمة التونسية ما جعلها في تبعية للدول القوية في هذا الاختصاص.

الملاكمة في تونس وصفها حلمي ساسي « بالجندي المريض على فراش الموت »، قد يأتي على تونس يوم لا تجد ملاكما فيها يحمل إرث أجيال.

عناوين أخرى