يُواصل أندريس شيباني سرد رواية رحلته في البحث عن سنّ لومومبا الذهبيّة، آخر ما تبقّى من جثمان الزعيم الكونغولي المنكّل بجثته بعد اغتياله منذ ما يزيد عن ستّة عقود.
ويؤكّد، رئيس مكتب “فاينانشيال تايمز” في شرق ووسط إفريقيا، أنّ الخطاب المُرتجل للومومبا -الذي ألقاه في يوم استقلال بلاده الكونغو في 30 جوان 1960 في حفل أقيم في قصر الأمّة- قوبل بحفاوة بالغة. لكنّ الأمر لم يرض الملك أو البلجيكيين المجتمعين أو المراقبين الغربيين الآخرين.
ويستحضر شيباني أنّ الرسالة التي نُشرت في صحيفة الغارديان، أيامها، أتت تحت عنوان “تشويه”، ووصفت أنّ الملك بودوان يتصرّف “بكرامة كبيرة” على الرغم من “خطاب لومومبا، الذي لا يمكن وصفه إلّا بأنّه مسيء”.
عندما أعلن التحقيق البرلماني البلجيكي عن نتائجه في عام 2001، سلّط الضوء على الخطاب باعتباره لحظة “أكّدت عدم الثقة المتبادل بين لومومبا والحكومة البلجيكية، والتي أثّرت بلا شك على ردود أفعالهما تجاه الأحداث اللاحقة”. وفق شيباتي.
من هناك خلص مُراسل “فاينانشيال تايمز” إلى أنّ أعضاء الحكومة البلجيكية “وشخصيات بلجيكية أخرى” يتحمّلون “مسؤولية أخلاقية في الظروف التي أدّت إلى وفاة لومومبا”، على الرغم من عدم قبولها أيّ مسؤولية قانونية.
ويقول شيباني: “جورج نزونغولا نتالاجا، مؤرّخ كونغولي وكاتب سيرة لومومبا وسفير الكونغو لدى الأمم المتحدة، يُجادل بأنه حتى الآن، لم تعترف بلجيكا بشكل كامل بدورها”، وهو الذي قال له “هم الذين تآمروا إلى جانب الولايات المتحدة”. “ذاكرة الولايات المتحدة قصيرة جدا وضعيفة، وعام 1961 خلفنا كثيرا الآن”.
أمريكا على الخط
تشهد وثائق أرشيفية متعدّدة على رغبة الحكومة الأمريكية في التخلّص من لومومبا في ذلك الوقت.
في أوت 1960، أرسل رئيس وكالة المخابرات المركزية، ألين دالاس، برقية لرئيس محطته في ليوبولدفيل، قال فيها: “إذا استمر لومومبا في تولّي منصب رفيع، فإنّ النتيجة الحتمية ستكون في أفضل الأحوال هي الفوضى، وفي أسوأ الأحوال تمهّد الطريق للاستيلاء الشيوعي على السلطة في الكونغو مع عواقب وخيمة على هيبة الأمم المتحدة وعلى مصالح العالم الحر بشكل عام.. يجب أن تكون إقالته هدفا عاجلا وأساسيا، وأنه في ظل الظروف الحالية يجب أن يكون هذا أولوية قصوى لعملنا السري”.
في الأيام التي أعقبت استقلال الكونغو، بدأ تمرّد في القوة العامة، القوات المسلحة للبلاد، والتي تألّفت من حوالي 25 ألف جندي كونغولي يتقاضون رواتب منخفضة تحت إشراف ألف ضابط بلجيكي.
حاول لومومبا تهدئة الجيش بإزاحة كبار الضباط، والسماح بما يسمّى بإضفاء الطابع الإفريقي على سلك القيادة.
لكن الأحداث هربت منه. عندما تمرّد الجنود في أجزاء مختلفة من الكونغو، قتل بعضهم واغتصبوا مواطنين بلجيكيين.
قرّرت الحكومة البلجيكية التدخل عسكريا وإعادة احتلال أجزاء من مستعمرتها السابقة.
كما دعمت انفصال كاتانغا، المقاطعة الغنية بالمعادن، حيث كان مقرّ اتحاد مينيير دو أوت كاتانغا، ومصدر الكثير من ثروة بلجيكا.
ردًّا على ذلك، أرسل لومومبا وكازافوبو برقية يطلبان فيها مساعدة عسكرية عاجلة من الأمم المتحدة.
وكتبا: “اعتبروا العملية البلجيكية غير المرغوب فيها عملا عدوانيا ضدّ بلدنا”.
وأضافا: “اتهم الحكومة البلجيكية بالإعداد التفصيلي لانفصال كاتانغان للاحتفاظ بالسيطرة على بلادنا”.
ووافقت الأمم المتحدة على إرسال قوة حفظ سلام، لكنها امتنعت عن التدخل في كاتانغا.
يُضيف شيباني: “بعد الرسالة الأولى أرسل لومومبا رسالة ثانية يائسة، هذه المرة إلى موسكو: “يمكن حثّها على طلب تدخل الاتحاد السوفييتي إذا لم ينه المعسكر الغربي العدوان على السيادة.. حياة رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء في خطر”.
وفي هذا الشأن يقول المؤرّخ ديفيد فان ريبروك إنّ هذه البرقية: “بضربة واحدة فتحت جبهة جديدة في الحرب الباردة”.
كان المسؤولون الغربيون قلقين من أنّه من خلال لومومبا، سيحصل الاتحاد السوفياتي على موطئ قدم في وسط إفريقيا، بالإضافة إلى إمكانية الوصول إلى الموارد المعدنية بما في ذلك اليورانيوم.
بدلا من خطاب يوم الاستقلال، ربما كانت هذه البرقية هي التي أصبحت في النهاية مذكّرة إعدام لومومبا.
“لومومبا كان قوميا، نعم. إفريقي، نعم. شخص لديه وعي اجتماعي يريد كونغو مستقلة، نعم”، هكذا أخبر جان أوماسومبو تشوندا، أستاذ العلوم السياسية في المتحف الملكي لإفريقيا الوسطى في بلجيكا، شيباتي، مؤكّدا أنّ لومومبا لم يكن شيوعيا.
ويوضّح: “كان يُحاول جعل الكونغو المستقلة تعمل في وقت الاضطرابات”.
اغتيال مدوّ
أثار اغتيال لومومبا اندلاع مظاهرات في لندن وبلغراد والقاهرة وموسكو ونيودلهي.
ووصفها رئيس الوزراء الهندي جواهر لال نهرو بأنها “جريمة دولية من الدرجة الأولى”.
انتقد بطل استقلال غانا ووالد القومية الإفريقية، كوامي نكروما، الأمم المتحدة لعدم تدخلها، قائلا: “المرة الأولى في التاريخ التي يُقتل فيها الحاكم الشرعي لبلد ما بالتواطؤ الصريح من منظمة عالمية”.
في وقت لاحق، شجب الثوري الأرجنتيني الكوبي، إرنستو “تشي” جيفارا، عملية الاغتيال في خطاب ناري أمام الأمم المتحدة.
وهنا يقول شيباني: “من المستحيل معرفة نوع رئيس الوزراء لومومبا الذي كان سيصبح لو لم تتم الإطاحة به، أو كيف كان سيغيّر الكونغو إذا لم يقتل”.
ويسترسل: “لكن من الصعب أن نتخيّل أنه كان يمكن أن يكون أسوأ من الرجل الذي حصل على دعم بلجيكا والولايات المتحدة، جوزيف ديزيريه موبوتو، الذي تولّى السلطة في انقلاب عام 1965، وأعاد تسمية نفسه موبوتو سيسي سيكو، وأعاد تسمية البلد زائير، وحكم ديكتاتورا لمدة 32 عاما. نظامه الكليبتوقراطي نهب الدولة لعقود”.
يقول شيباني واصفا فيليكس تشيسكيدي، رئيس الكونغو الحالي، الذي التقاه وحدّثه عن لومومبا: “هو رجل قويّ البنية يرتدي نظارات دون إطار، ويتحدّث بثقة، وكثيرا ما تتخلّل جمله ابتسامة”.
ويُضيف: “كان يرتدي بنطالا بنيا وسترة مريحة رمادية زرقاء، جلس على أريكة جلدية كريمية بين وسادتين لامعة باللونين الأزرق والأصفر”.
وفي حديثه عن لومومبا قال تشيسكيدي لشياني: “إنه رمز حقيقي”، وأضاف: “على الرغم من العديد من الأجيال التي جاءت وذهبت، وهذا هو الجيل الثالث منذ لومومبا، لا يزال يُعتبر رمزا”.
أدرك تشيسكيدي قوة اللحظة التي عادت فيها أسنان لومومبا إلى المنزل أخيرا. وكانت الحكومة قد عيّنت المخرج الكونغولي بالوفو باكوبا كانييندا، المسؤول عن تنظيم الاحتفالات.
بابا لومومبا
في أسبوع الدفن، تمّ رفع الأعلام على المباني الحكومية نصف الصاري وتمّ لصق العاصمة بلوحات إعلانية تشكر “البطل القومي”.
في الحفل، أخبر تشيسكيدي الحشد المجتمع أن البلاد تمكنّت أخيرا من إنهاء فترة الحداد التي بدأت قبل 61 عاما.
لم يكن الجميع سعداء باستخدام إرث لومومبا من قبل سياسيين من أحزاب أخرى.
في المُقابل، يعتقد جوزيف أنجاندا، العضو البارز في حزب لومومبا، أنّ الحكومات الكونغولية، بدءًا من موبوتو وحتى تشيسيكيدي، قد استغلت قصة لومومبا، وهو الذي قال لشيباني: “لا يتمّ إطلاع الناس بشكل كافٍ على الحقيقة”.
وأضاف: “تُحاول الحكومة وضع الأمور في جانبها، لكن فيليكس تشيسكيدي يأتي من اتجاهات سياسية تُعارض أسلوب وسياسات باتريس لومومبا”.
وتولى تشيسكيدي منصبه في عام 2019، بعد الإعلان عن فوزه في الانتخابات الرئاسية. لكن السياسيين المعارضين والكنيسة الكاثوليكية شكّكوا على الفور في النتيجة.
وأصدرت الكنيسة بيانا قالت فيه إنّ النتيجة لا تتوافق مع بيانات عشرات الآلاف من المراقبين الذين يراقبون التصويت.
وهنا يقول شيباني: “أظهر تحليل “فايننشال تايمز” لمجموعتين منفصلتين من بيانات التصويت أن خصمه مارتن فايولو كان الفائز الواضح”.
في المُقابل، نفى تشيسكيدي مرارا وتكرارا الاحتيال. ومن المقرّر إجراء الانتخابات الرئاسية في ديسمبر من العام الجاري، ويرى بعض المحلّلين أنه من المحتمل أن يفوز، هذه المرة على الأرجح بشكل شرعي.
يُواصل شيباني سرد رحلته مع سنّ لومومبا، قائلا: “بينما كنت أقف على شرفة تطلّ على تابوت لومومبا في قصر الأمة في كينشاسا، قامت ماري ميسامو باكالا، عاملة النظافة البالغة من العمر 62 عاما، بالضغط على نفسها من خلال الباب، بين الشخصيات المرموقة، لتتمكّن من رؤية “بابا لومومبا” لأول مرة وآخر مرة”.
كانت تبلغ من العمر عاما واحدا فقط عندما قُتل، لكنها تذكّرت أن والديها كانا يتحدّثان عنه باعتزاز.
لقد انفجرت بالبكاء. همست “بابا، أخيرا”. وأردفت: “لقد كان وقتا طويلا”.
عن هذا الشعور قالت منى بيمبيلي، الناشطة الكونغولية البلجيكية لشيباني: “هناك صدمة تاريخية بين العديد من الكونغوليين اليوم”.
وهو ما يؤكّده شيباني بنفسه، قائلا: “شعر العديد من كبار السن الذين تحدّثت إليهم بالغضب أو الحزن. لقد حدث التدخل في الديمقراطية الوليدة في بلادهم، والمعاملة الوحشية لرئيس وزرائهم المنتخب، في الذاكرة الحية”.
بلجيكا والمسؤولية الأخلاقية
يُواصل شيباني سرده: “في بروكسل، قبل عدة أسابيع، تحدّثت إلى الممرضة تيما كامبا التي انتقلت إلى بلجيكا من الكونغو عندما كانت طفلة. كانت قد جاءت لتودّع النعش في ساحة باتريس لومومبا، التي سمّيت على شرفه”.
وتقول كامبا لشيباني: “بعد 60 عاما، تقول الحكومة البلجيكية إنها تتحمّل مسؤولية أخلاقية. لكن الحكومة البلجيكية متورّطة في وفاة بابا لومومبا من البداية حتى النهاية. “المسؤولية الأخلاقية؟” كانت متشكّكة.. “الكونغوليون يحبون البلجيكيين، لكن بلجيكا لا تعرف كيف تحب الكونغوليين. كل ذلك بسبب وجود مشكلة تاريخية.. إنهم لا يعرفون كيف يحبّوننا، لأن أيديهم ملطخة بدمائنا”.
بدوره شعر الكاتب الكونغولي إن كولي جان بوفان، الذي يعيش في بلجيكا منذ عام 1993، أنّ الاحتفالات حول عودة السنّ لا ينبغي أن تخفي رعب تاريخها، قائلا لشيباني: “الأمر برمّته مروّع”، بينما كانا يشربان البيرة الكونغولية ويأكلنا موز الجنة المشوي في ماتونج، الحي الإفريقي في بروكسل.
وأضاف موجّها كلامه لشيباني: “تخيّل أن قتلة جون فيتزجيرالد كينيدي يأتون ليخبروك كيف قتلوه واحتفظوا بسنّ أو إصبع. كيف سيشعر الأمريكيون؟”.
يسترسل شيباني: “في زاوية شارع بالقرب من المطعم، وضع الفنانون الكونغوليون البلجيكيون نسخة طبق الأصل من السنّ من الورق المعجّن”.
كان لومومبا يُؤمن بالديمقراطية وسيادة القانون. ففي رسالة تمّ تهريبها من الزنزانة التي احتجز فيها في الأيام الأخيرة قبل وفاته، كتب بوضوح يائس: “قانون العقوبات المعمول به في الكونغو ينصّ صراحة على وجوب إحضار السجين أمام قاضي التحقيق الذي يحقّق في التهم”.
وأضاف: “في اليوم التالي لاعتقاله على أبعد تقدير.. مهما كانت الظروف، يحقّ للسجين توكيل محام.. لم يتم إصدار أيّ أمر بإلقاء القبض علينا. لقد احتجزنا ببساطة في معسكر للجيش لمدة أربعة وثلاثين يوما، في زنازين العقاب”.
“لا أحد يستمع.. لم يأت محامون”، كما يروي دي ويت في كتابه، حاول أحد حليف لومومبا تسليم الرسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة، داغ همرشولد، الذي كان يزور جمهورية الكونغو الديمقراطية في ذلك الوقت.
وبحسب ما ورد تحوّل همرشولد، وهو سويدي، إلى اللون الأحمر وطلب تسليمه إلى سكرتيرته الخاصة.
قبل خمسة أشهر فقط، أخبر همرشولد ممثل الولايات المتحدة في الأمم المتحدة أنّه يعتقد أنّ: “الوضع في الكونغو لن يتمّ تقويمه حتى يتمّ التعامل مع لومومبا وأنه يجب “كسر” لومومبا”. وفق تحقيقات شيباني.
عودة الهوية
يقول أندريس شيباني: “أعادت عودة السنّ فتح الجدل حول ما تُدين به بلجيكا بالضبط للكونغو، وما تُدين به القوى الاستعمارية الأخرى لمستعمراتها السابقة”.
يحتوي المتحف الملكي لإفريقيا الوسطى خارج بروكسل على حوالي 84 ألف قطعة. وفي فيفري 2022، قدّمت قائمة بمخزونها إلى جمهورية الكونغو الديمقراطية للسماح بالتحقيق في مصدرها.
وعن ذلك قال أموري لومومبا، وهو حفيد آخر للزعيم الراحل: “هذا أكبر من السنّ..إنّه يتعلّق بما يمثّله”.
ومع ذلك، كان للسنّ أيضا قوة محدّدة خاصة به. قضت عقودا مخبّأة في أرض أجنبية، تذكار رجل قام بوحشية وقطع أوصال صاحبها.
أثبت وجودها القاتم شيئا عن تاريخ بلجيكا الاستعماري، عملت مؤسّسات البلاد على نسيانه.
في بروكسل، تحدّث ألكسندر دي كرو، رئيس وزراء بلجيكا، بصراحة عن التناقض بين الديمقراطية الإنسانية التي كان يأمل في تمثيلها وواقع تصرفات الحكومة البلجيكية قبل ستة عقود.
وفي خطاب ألقاه أمام عائلة لومومبا في قصر إجمونت، قال: “تمّ اغتيال رجل بسبب قناعاته السياسية، وكلماته، ومُثله العليا. بالنسبة للديمقراطي الذي أنا عليه، لا يمكن الدفاع عنه. بالنسبة لليبرالي الذي أنا عليه، هذا غير مقبول. وبالنسبة للإنسان الذي أنا عليه، فهذا أمر بغيض”.
واليوم، لا تزال جمهورية الكونغو الديمقراطية واحدة من أفقر البلدان في العالم، حيث تضرّر من الفساد وعقود من الحكم الكليبتوقراطي وجماعات الميليشيات المتمرّدة.
ومع ذلك، فإن رواسبها المعدنية -وهي أكبر منتج للنحاس في إفريقيا ومصدر نصف الكوبالت في العالم- تواصل جذب اهتمام الشركات الخاصة والميليشيات والدول القومية، بما في ذلك الصين.
ضريح كينشاسا الذي تقع فيه السنّ الآن، والذي قيل إن تكلفته 2.4 مليون دولار، شيّدته شركة صينية. وفوقها تمثال من البرونز المصبوب للومومبا أقامته عام 2002 شركة إنشاءات تسيطر عليها الدولة في كوريا الشمالية.
ويختم أندريس شيبانيرحلته في تتبّع سنّ لومومبا: “على عكس لومومبا الذي تمّ تصويره في الفيلم بعد اعتقاله الأخير مباشرة -رجل خائف ومهزوم يرتدي قميصا قصير الأكمام، لحيته مقطوعة، وعيناه مغطاة بالألم والرهبة- هذه النسخة من أول رئيس وزراء في البلاد ينظر بفخر إلى العاصمة، وسترته مزيّنة بالأزرار، وتعبيره حازما وحازما. ترفع إحدى يديه كأنها في التحية أو الوداع”.
انتهى