ثقافة

“صليحة صوت تونس الأعماق”.. نبش سينمائي في حياة مطربة تونس الأولى

بالتزامن مع الذكرى الـ65 لرحيل مطربة تونس الأولى، تعرض قناة الجزيرة الوثائقية، اليوم الأحد 26 نوفمبر، الفيلم الوثائقي الروائي “صليحة صوت تونس الأعماق” للمخرجة التونسية سماح الماجري.

والفيلم الذي وقع عرضه العالميّ الأول، أمس السبت 25 نوفمبر، بقاعة الطاهر شريعة بمدينة الثقافة الشاذلي القليبي بالعاصمة تونس، ينبش في تفاصيل حياة مطربة تونس الأولى عبر توثيق مسارها وزخم مسيرتها الفنية، رغم أنّها توفيت في عمر الـ44، وهو من بطولة ملكة الشارني التي جسّدت دور صليحة الطفلة، لتستكمل عايدة جفال الدور في مرحلة نضج الفنانة، ويشارك في الفيلم عدد من الممثلين بينهم عبدالكريم البناني الذي جسّد دور حسونة بن عمار محامي الفنانة الراحلة.

من الهامش إلى الخلود

يحكي الروائي الوثائقي مسيرة الفنانة صليحة الملقّبة بـ”كوكب المغرب العربي”، متناولا أصولها الجزائرية وظروف قدوم عائلتها إلى تونس ثمّ الظروف العائلية القاسية التي دفعتها إلى العمل خادمة، كما يعرض الفيلم قصة اكتشاف موهبة صليحة الفنية إلى أن ذاع صيتها في تونس وبدأ ينتشر في المغرب العربي بداية الخمسينات حتى وفاتها عام 1958.

وفي تصريحات لإذاعة موزاييك الخاصة، كشفت مخرجة الفيلم سماح الماجري أنّ بحثها في أرشيف الفنانة صليحة رفقة فريق عمل ضمّ المؤرّخ عبدالستار عمامو والموسيقي فتحي زغندة، انطلق عام 2019، ليستغرق إنجاز الفيلم بعد ذلك نحو ثلاث سنوات، حيث أصبح العمل جاهزا عام 2022.

وترى الماجري أنّ الفنانة التي تحظى بشعبية كبيرة في تونس لم تأخذ حظها سواء سينمائيا، أو وثائقيا، ما جعلها تسعى إلى إنجاز عمل يوثّق لأغاني صاحبة الصوت الشجيّ بمسحته البدويّة الظاهرة.

ورغم عدم الإضاءة سينمائيا ودراميا على صوت قادم من عمق التراث الشعبي التونسي بالشكل الذي يحفظ لصليحة مكانتها في قلوب التونسيين وذاكرتهم، فإنّ هذا التعتيم لم يكن وحده دافع الماجري لتركيز عدسات كاميراتها صوب أرشيف الفنانة وإرثها الفني، فقد كشفت أنّ قصة هذه النجمة هي ما جذبها للنبش في تاريخها منذ ولادتها إلى لحظة وفاتها، وفق ما نقله موقع ميدل إيست أونلاين.

وذكرت سماح الماجري أنّ قصة صليحة بدأت بقدومها رفقة عائلتها البسيطة من الجزائر إلى تونس واستقرارها في دشرة نبر التابعة لمحافظة الكاف (شمال غرب تونس)، لفترة معيّنة عاشت خلالها ظروفا قاسية بسبب الحرب العالمية الأولى التي كانت دائرة آنذاك، وعملت الفنانة خادمة في منازل العديد من العائلات الغنية، إلى أن اضطرت إلى الذهاب إلى العاصمة التونسية رفقة والدتها بعد طلاق والديها ورجوع والدها إلى الجزائر رفقة شقيقتها.

وأكّدت المخرجة أنّ أرشيف الفنانة رغم تعسّر الحصول فيه على معلومات شافية وكافية، إلّا أنّه كشف عن قصة كبيرة وأليمة وراء نجاحها وشهرتها التي بدأت عام 1938 بظهورها للمرّة الأولى في حفل بمناسبة تدشين محطة الإذاعة البريدية الجديدة بقيادة البشير فهمي، فتبنّتها الرشيدية في السنة ذاتها.

واعتمدت الماجري في فيلمها على تقنية “الفلاش باك” (اللقطات الارتدادية)، حيث ينطلق المشهد الأول بظهور صليحة في المستشفى وهي تستمع للراديو الذي بثّ إعلانا عن إلغاء حفلها بسبب وضعها الصحي، فتغامر بالهروب من المستشفى، ومن هناك يعود الفيلم إلى فترة ولادتها وكل ما مرّ بحياتها وحفلاتها وصولا إلى وفاتها.

صليحة.. السيرة والمسيرة

وُلدت صليحة عام 1914 بقرية نبر في ولاية الكاف شمال غرب العاصمة التونسية. وكان اسمها الأصلي صلّوحة بنت إبراهيم بن عبدالحفيظ، ثمّ اشتهرت باسم “صليحة”.

نشأت في بيئة ريفية، قبل أن تنتقل إلى العاصمة تونس، حيث عُرفت بصوتها الشجيّ الذي اتّسم بالطابع البدوي المُحافظ على الهويّة التونسية.

عملت إثر قُدومها إلى العاصمة التونسية معينة منزليّة في بيت محمد باي، الذي كان يرتاده كبار الفنانين آنذاك. وكانت تستمع إليهم خلسة، ثمّ تُردّد فيما بعد أغانيهم حتّى انتقلت إلى العمل في بيت فنانة مُحترفة اسمها “بدريّة”.

كانت تُغنّي، فيَصل صوتها الشارع، حتّى سمعها ذات صُدفة أحد الفاعلين في تأسيس الرشيدية المحامي حسونة بن عمار، فانبهر بصوتها، لكنّ بدرية قرّرت التخلّص منها بدافع الغيرة.

تواصلت رحلة الاكتشافات للعاملة المنزلية البسيطة، إذ سمعها ذات مرّة الموسيقي الليبي البشير فحيمة فقدّمها في حفلات خاصّة، ثمّ اكتشفها متعهّد الحفلات الباجي السرداحي، الذي استمع إليها وهي تُؤدّي أغنية “افرح يا قلبي” لأم كلثوم.

وصقل موهبتها رفقة فحيمة، ثمّ قدّمها إلى الإذاعة التونسية لتُبثّ أولى حفلاتها أواخر الثلاثينات.

وبعد بحث مستمرّ عثر عليها حسونة بن عمار من جديد، إثر حفل مباشر لها في الإذاعة التونسية مع فرقة السرداحي. واتّفقوا جميعا على استحقاقها بداية مسيرة احترافيّة، انضمّت خلالها إلى الرشيدية وخضعت لتدريبات مُكثّفة. وفي الأثناء عاصرت أسماء فنية بارزة، أمثال شافية رشدي وفتحية خيري.

تعرّضت صليحة للتنمّر والسّخرية من قبل مدرسة الرشيدية التي كانت تضمّ أساسا أبناء الحاضرة، وذلك بسبب انتمائها الرّيفي، ممّا سبّب لها ألما نفسيّا ومشاكل ومواجهات عديدة حينها مع رئيسها وموظّفيها. كما اعتبروها لا تُصنّف ضمن الفنّانات الجميلات، وفق مقاييس الجمال المُتّبعة في ذاك الوقت.

ورغم حجم المضايقات التي تعرّضت لها الفنانة، فقد آمنت بنفسها ودافعت عن طموحها حتّى نحتت اسمها في الذاكرة الشعبية التونسية.

مع فترة التّجريب المُكثّف والنّبش في التّراث الموسيقي، غنّت صليحة “العروبيات” و”الفوندو”، وأدّت القصائد والمُوشّحات رغم إصرارها على أداء اللهجة البدوية وخصوصياتها الإيقاعية الجبلية.

وارتأت أن تُحافظ على القالب الغنائي التراثي “الفوندو”، الذي جمع الغناء البدوي بالحضري في مستوى النص والمقامات والإيقاعات.

وتتلمذت على يد مجموعة من الملحّنين البارزين، أمثال خميس الترنان ومحمد التريكي ومصطفى صفر.

واستأثر الترنان بالنّصيب الأكبر من الألحان التي قُدّمت إليها، ومن أشهر أغانيها: “خالي بدّلني”، “عرضوني زوز صبايا”، “ساق نجعك ساق”، “في الغربة فناني”، “فراق غزالي”، “آه يا خليلة”، “ياللّي بعدك ضيّع فكري”، “يا خيل سالم”، “شوشانة”، “لميت لم المخايل”، وغيرها الكثير.

وانتصرت في بعض أغانيها للموروث الغنائي الشعبي المُفعم بروح التجديد، مثل أغنية “مع العزابة”.

وتذكر بعض الرّوايات أنّها تعرّضت في إحدى المرّات لإصابة خطيرة، فحذّرها الطبيب من عدم ممارسة أيّ نشاط ينتهك جسدها النّحيل الّذي أُخضع لعدّة عمليّات جراحيّة. لكنّ عشقها للغناء جعلها لا تمتثل لأوامره، وبمجرّد أن علمت بخبر انتظام أول حفل موسيقي مغاربي في تونس، تحرّك داخلها الوازع الوطني، فهربت من المستشفى مُتّجهة إلى المسرح البلدي لتُمثّل تونس في ذاك الحفل.

صعدت على خشبة المسرح، وغنّت وهي مسنُودة إلى كرسيّ “مريّض فاني”، وكأنّها تُودّع نفسها يومها.

وفي الـ26 من نوفمبر 1958 رحلت الفنّانة التونسية صليحة عن عمر ناهز الـ44، بعد أن خلّدت بصوتها التّونسي الأصيل ملامح حياة البداوة وجانبا من صخب المدينة، في ذاكرة الأجيال.