ثقافة

صباح فخري… المؤذّن الذي صار أيقونة القدود الحلبية

يحتفي العالم العربيّ اليوم 2 ماي/ أيار بالذكرى الـ89 لميلاد ملك القدود الحلبية الفنان السوري صباح فخري، الذي غيّبه الموت في الثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني من العام الماضي 2021 بالعاصمة السورية دمشق.

وولد فخري، الذي منح له تقديرا لفخري البارودي الذي رعى موهبته، باسم صباح الدين أبوقوس عام 1933 في حلب القديمة، حيث كان محاطا بثلة من شيوخ الطرب والمنشدين وقارئي القرآن وصانعي مجد القدود الحلبية، واعتاد والده اصطحابه صغيرا إلى جامع الأطروش في الحارة القريبة أين تقام حلقات الذكر والإنشاد.

وفي باب النيرب كانت له أول حلقة إنشاد بمقابل وهو لم يتجاوز الثامنة من عمره، ولقاء ليرتين سوريتين غنى أولى القصائد أمام الملأ، والتي يقول مطلعها: “مقلتي قد نلت كل الأرب/ هذه أنوار طه العربي/ هذه الأنوار ظهرت/ وبدت من خلف تلك الحُجب”.

وفي سن مبكرة أيضا تمكّن من ختم القرآن وتلاوة سوره في جوامع حلب ورفع الآذان فيها، كما شارك في الحلقات النقشبندية، مفتتحا أول تمارينه مع الشيخ بكري الكردي أحد أبرز مشايخ الموسيقى.

اشتد عود فخري وازداد تعلقه بالإنشاد والتجويد من خلال مجالسته لكبار منشدي الطرب الأصيل، واجتاز امتحانات غنائية صعبة على أيدي “السمّيعة” الذين يتمتّعون بآذان لا تخطئ النغم وتكشف خامات الصوت وتجري اختبارات حتى لكبار الأصوات آنذاك مثل محمد عبدالوهاب وأم كلثوم اللذين زارا حلب للغناء على مسارحها في ثلاثينات القرن الماضي.

وقد ساهمت نساء ذلك الزمن في صعود نجم الفتى، حيث أن من العادات الاجتماعية لسيدات حلب تحديد موعد شهري لكل سيدة تستقبل فيه من ترغب من معارفها وتكون الدار مفتوحة على الغناء والعزف والرقص، وهو ما كان يسمى “القبول” وصارت النساء يطلبنه للغناء في هذه التجمعات.

التحق بالمدرسة الحكومية الحمدانية في حلب، وهناك برز تفوّقه كتلميذ يشارك في المهرجانات السنوية للمدرسة.

ولم يكد صباح يبلغ الثانية عشرة من عمره حتى وجد نفسه يغني في حضرة رئيس الجمهورية السورية آنذاك شكري القوتلي خلال زيارته إلى حلب عام 1946، ما اعُتبر محطة مصيرية قفزت بفتى الموشحات إلى خارج حدود حلب.

ودرس فخري في أكاديمية الموسيقى العربية في حلب ودمشق، وتخرّج من المعهد الموسيقي الشرقي عام 1948، كما أنهى دراسة الموشحات والإيقاعات ورقص السماح والقصائد والأدوار والصولفيج والعزف على العود على أيدي شيوخ الفن كالشيخ علي درويش ومجدي العقيلي.

رفض محمد صباح العرض الذي قدّم له بالسفر إلى مصر آنذاك لصقل موهبته وآثر البقاء في دمشق والغناء عبر إذاعتها الرسمية. وفي إحدى الحفلات الإذاعية المباشرة على الهواء والتي كان يقدّمها المذيع صباح القباني شقيق الشاعر نزار قباني أراد النائب فخري البارودي أن يتبنى المطرب صباح ويعطيه لقبه، فقدّم المذيع المطرب باسم صباح فخري”.

وبمساعدة موسيقية من الفنان عمر البطش وضع صباح فخري أولى تجاربه في التلحين عن عمر لم يتجاوز الرابعة عشر ربيعا، وكانت أنشودة: “يا رايحين لبيت الله/ مع السلامة وألف سلام/ مبروك عليك يا عبدالله/ يا قاصد كعبة الإسلام”.

وجاءت أول أدوار فخري القديمة من ألحان سري الطنبورجي وهو حمصي المنشأ سكن في دمشق. وتقول الأغنية: “أنا في سكرين من خمر وعين/ واحتراق بلهيب الوجنتين/ لا تزدني فتنة بالحاجبين/ أنا في سكرين”. وقد غدت هذه القصيدة ملتصقة باسم صباح بعد أن أضاف إليها من روحه في اللحن والكلمة.

حشرجة الصوت وفقدانه

تسبّب انتقال حنجرة فخري من الصبا إلى الشباب في حشرجة فاجأت صاحبها وصعقت خبراء الغناء، إذ يحدّث التاريخ أن هرمونات الرجولة غيّرت من طبيعة صوت الفتى وتكوين حنجرته الذي بدا كالمبحوح.

ولعبت الحالة النفسية لصباح دورها السلبي، فكلما حاول أن يرفع عقيرته للغناء كان يفاجأ بشخص آخر يغني من حنجرته. الأمر الذي جعله دات مساء يصرخ: “إنه ليس صوتي.. لست أنا ما الذي حصل؟”، كلها تساؤلات كان يضجّ بها رأس الشاب الذي بدأ يشعر بفقدان أغلى ما وهبه إياه الخالق.

وفي سن الخامسة عشرة أطبق صباح فخري على صوته واعتزل الغناء مكرها، فراح يبحث عن لقمة عيشه في الترحال بين قرى ريف حلب إلى أن التحق بالخدمة العسكرية عندما أصبح شابا يافعا.

ومع اكتمال رجولته تبلورت حنجرته واكتمل تكوينها لتٌعيد للكنز الدفين تألقه، وعاد صوت صباح الرجل يشقّ لنفسه مكانا بين ذكريات سنين المراهقة في أحياء حلب وبيوتها.

عاد فخري إلى أضواء الشهرة من بوابة إذاعة حلب وسهرات إذاعة دمشق وما كان يعرف بخيمة حماد التي غنى فيها مع المطربة اللبنانية صباح، وهناك قدّم الموال بالقدود الحلبية وغنى “مالك يا حلوة مالك” و”يا مال الشام ويالله يا مالي/ طال المطال يا حلوة تعالي”.

وغنى أيضا “نغم الأمس” مع رفيق سبيعي وصباح الجزائري، حيث سجّل ما يزيد عن مئة وستين لحنا ما بين أغنية وقصيدة ودور وموشح وموال، وقد حافظ على التراث الموسيقي العربي الذي تتفرّد وتشتهر به حلب. كما تلا أسماء الله الحسنى مع الفنان السوري عبد الرحمن آل رشي والفنانة منى واصف والفنان زيناتي قدسية.

وسجّل المسلسل الإذاعي “زرياب”، كما لحّن وغنى العديد من القصائد العربية، حيث غنى لأبي الطيب المتنبي وأبو فراس الحمداني ومسكين الدارمي ولابن الفارض والرواس وابن زيدون وابن زهر الأندلسي ولسان الدين الخطيب.

كما لحّن وغنى لشعراء معاصرين على غرار فؤاد اليازجي وأنطوان شعراوي وجلال الدهان وعبد العزيز محي الدين الخوجة وعبد الباسط الصوفي وعبد الرحيم محمود وفيض الله الغادري وعبد الكريم الحيدري.

ووقف في العام 1974 أمام الفنانة وردة الجزائرية بطلا لمسلسل “الوادي الكبير” الذي وثع تصويره في لبنان. وعندما التقى بالفنان المصري الراحل محمد عبدالوهاب الذي سمعه مندهشا، قال له: “مثلك بلغ القمة، ولا يوجد ما أعطيك إياه”، ودامت صداقتهما حتى رحيل موسيقار الأجيال في العام 1991.

ومعلوم أن فخري قدّم كل فنون الغناء العربي في الموشح والدور والقد والموّال والقصيدة. ففي القصيدة قدّم: “قل للمليحة في الخمار الأسود” و”بيضاء لا خدر يشوب صفاءها” و”جاءت معذبتي في غيهب الغسق” و”خمرة الحب اسقنيها”، أما في الموشّح فقدّم: “لما بدا يتثنى” و”ملا الكاسات وسقاني” و”أحن شوقا” و”يا من يحن إليه فؤادي”.

وفي الدور خلّد فخري أعمالا منها: “يا ما انت واحشني” و”يلي تشتكي من الهوى”. وفي الغناء الشعبي قدّم: “يا مال الشام” و”يا طيرة طيري” و”طالعة من بيت أبوها”، وفي القد غنى: “كنا ستة على النبعة” و”قدك الميّاس” و”مالك يا حلوة مالك” وفي الموال قدّم: “يا حادي العيس” و”يا سايق الهجن” و”فتح بخدك ورد” وغيرهم.

تزوّج فخري مرّتين، أنجبت له زوجته الأولى المتوفاة ثلاثة أبناء هم محمد وعمر وطريف، أما زوجته الثانية فأنجبت له ابنا واحدا هو المطرب أنس صباح فخري.

تكريم تونسي

في العام 2015 كرّمت تونس الفنان السوري صباح فخري بمنحه الوسام الأكبر للاستحقاق الثقافي في احتفال أقيم بمقر وزارة الثقافة والمحافظة على التراث في العاصمة التونسية.

وقلدّت وزيرة الثقافة التونسية لطيفة لخضر، حينها، الفنان السوري الوسام في حضور الفنان اللبناني مارسيل خليفة وثلة من نجوم الفن والثقافة التونسيين.

وعبّر فخري الذي حضر، أيامها، ضيف شرف على مهرجان أيام قرطاج الموسيقية في نسختها الثانية، عن اعتزازه الكبير بمنحه الوسام الأكبر للاستحقاق الثقافي، وقال إنه أعاد له ذكريات سابقة عندما منحه الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة وسام تونس الثقافي في عام 1975.

وخارج تونس، تقلّد الراحل وسام الاستحقاق من الدرجة الممتازة عام 2007 “تقديرا لفنه وجهده في الحفاظ على الفن العربي الأصيل ولرفعه راية استمرارية التراث الفني العربي الأصيل”. كما قدّمت له المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم “الألكسو” في العام 2004 الجائزة التقديرية مع درع المنظمة ووثيقة الأسباب الموجبة لمنح الجائزة، لحفاظه على الموسيقى العربية ونشرها.

وسجّل فخري رقما قياسيا من خلال غنائه على المسرح مدة تجاوزت عشر ساعات متواصلة دون استراحة في العاصمة الفنزويلية كاراكاس عام 1968.

وشغل الراحل العديد من المناصب بينها نقيب الفنانين في سوريا لأكثر من دورة، ثم نائب رئيس اتحاد الفنانين العرب، كما انتخب عضوا في مجلس الشعب السوري في دورته التشريعية السابعة لعام 1998.