يرقد صائب عريقات أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وأحد أبرز قياداتها التاريخية في مستشفى هادسا بالقدس المحتلة منذ مساء الأحد، بعد نقله إلى هناك بشكلٍ عاجلٍ بطلبٍ من مسؤولين فلسطينيين، ووسط أنباء عن تدهور حالته الصحية التي وصفت “بالحرجة”.
ويعاني عريقات من عدة مشكلاتٍ صحيةٍ أبرزها ضعف المناعة على مستوى الجهاز التنفسي، منذ خضوعه لعملية زرعٍ للرئة بالولايات المتحدة سنة 2017، وهو ما يكشف جانبًا من التداعيات الصحية التي يواجها الرجل نتيجة عقودٍ من المهام الشاقة والضغوط السياسية، وجولات المفاوضات بين مختلف العواصم.
يشتهر عريقات 65 عامًا، والمولود بضاحية أبوديس المحاذية للقدس، بلقب كبير المفاوضين الفلسطينيين، وهي تسمية تتجاوز التوصيف الرسمي لمنصبه كمسؤول لدائرة شؤون المفاوضات، لتختزل مسيرةً طويلةً بين كواليس التفاوض مع الإسرائيليين على مدار أكثر من ثلاثة عقود.
عبر كل المحطات التاريخية الخاصة بالتسوية السلمية منذ مؤتمر مدريد للسلام سنة 1991، كان الرجل أبرز مهندسي الاتفاقات الفلسطينية الإسرائيلية، انطلاقًا من أوسلو 93، واتفاق غزة وأريحا 94، وطابا 95، وبرتوكول إعادة الانتشار الموقع في 97، وصولًا إلى مذكرتي واي ريفر 1 و2 المتعلقتين بمفاوضات الوضع النهائي.
سطع نجم عريقات منذ اللحظة الأولى لمؤتمر مدريد عندما ظهر وهو يضع الكوفية الفلسطينية، ما أثار غضب واحتجاج رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحاق شامير، مبرزًا مواهبه في توظيف المشهد الذي يبث مباشرة على الشاشات للعب على التفاصيل، والضغط على الإسرائيليين.
حققت لحظة مدريد نصرًا رمزيًا بعد تدخل قياداتٍ عربيةٍ أبرزها الملك الأردني الحسين ، والذي تمسك بنزع غطاء الرأس اليهودي “الكيباه” الذي يضعه بعض أعضاء الوفد الإسرائيلي، ردًا على تهديدات شامير بالانسحاب ما لم يتنازل عريقات عن كوفيته.
تعمقت خبرة خريج جامعة سان فرنسيسكو الأمريكية في اختصاص العلوم السياسية في فن إدارة التوازنات على طاولة المباحثات، حتى أضحى محركًا لخيوط اللعبة وماسكًا بعقدة الحل والتأزيم مع الإسرائيليين والأمريكيين، وكذلك المبعوثين الدوليين.
يدرك “أبو علي” كما يكنى في الأوساط الفلسطينية، اللحظة المناسبة لخفض منسوب التوتر وتقديم التنازلات الممكنة لقطف نتيجةٍ أثمن وأهم من الطرف المقابل، واشتهر بقدرته على التصعيد وإبداء الليونة عند الضرورة، بما أهله لنيل لقب “شيطان أريحا” من الزعيم الراحل أبو عمار.
من العمل الأكاديمي بجامعة النجاح الفلسطينية والكتابة بالصحف، دخل عريقات بوابة العمل السياسي، تخللته تجربة مع الراحل فيصل الحسيني ببيت الشرق، وانتهت بالتحاقه بمنظمة التحرير الفلسطينية بتونس، أين أصبح المفاوض الذي يحظى بثقة عرفات.
في حوارٍ له عن أسرار المباحثات، يصف أبوعلي التفاوض بأنه “علم من العلوم، لأنه يستخدم علم النفس والرياضيات والمنطق والتاريخ والجغرافيا، وكل علمٍ لمصلحة المفاوضات”.
ويقر عريقات في الآن ذاته بأن المفاوض لا يستطيع قول كل الحقائق دائمًا، “ولكنه ممنوع من الكذب، أمام خصومه وشعبه وأمام قيادته”.
خلال أصعب مسارات القضية الفلسطينية، احتفظ شيطان المفاوضات بقدرته على المناورة والخروج من أدق الأوضاع وإيجاد الحلول، وأدار دفة الاتصالات مع الإسرائيليين في أحلك فترات الحصار المفروض على عرفات بمقره بالمقاطعة.
لكن النجاحات التي نسجها عبر “طابا” و”واي ريفر” و”شرم الشيخ”، تعرضت إلى انتكاسةٍ سياسيةٍ وأخلاقيةٍ حادةٍ، بعد التحقيق الذي بثته قناة الجزيرة سنة 2011 عن وثائق المباحثات بين السلطة الفلسطينية والإسرائيليين.
كشف التحقيق تنازلاتٍ صادمةً عن ثوابت القدس وحق العودة، في تصريحٍ منسوبٍ لعريقات مفاده، “أن ما تحويه الأوراق يمنح الإسرائيليين أكبر أورشليم في التاريخ اليهودي، مع عودة عددٍ رمزيٍ من اللاجئين، ودولة منزوعة السلاح، ما الذي كان بإمكاني تقديمه أكثر من هذا؟”، ما دفعه للاستقالة من منصب رئيس دائرة المفاوضات الفلسطينية، بعد أن صارت مصداقيته كمدافعٍ عن الحقوق الوطنية الفلسطينية موضع شكوكٍ واتهامات.
“الحياة مفاوضات”، هكذا عنون الرجل كتابًا عن تجربته السياسية سنة 2008، ما يختزل فلسفته لعمله عبر قنوات الاتصالات السرية والعلنية، والتي جعلته أشبه بلاعب الخفة الذي يسير على الحبال محاولًا الحفاظ على توازنه، والإمساك بالعصا من المنتصف في الآن ذاته.