بقلم : نبيل الريحاني
كتب الجورناليست:
ترددت كثيرا في الكتابة عن مهنتي الحالية وأنا الصحافي الذي يكاد يطوي عقدين في مزاولتها.
ترددت لأنني خشيت أن ينسب نصي إلى التبجح، حيث يحلو لبعض من أهل القطاع التباهي بالبريق الذي تتمتع به مهنتنا، ذلك أن الناس يتوقعون ممن ينتسبون إليها المعارف المعمقة والإلمام بالحقائق والعلاقات المميزة وكذلك التأثير الواسع.
لكنني بالحقيقة لست في هذا الوارد بالمرة، فما أريد الإصداع به هو أقرب لتسجيل واقع مررت به وتوثيق تجربة عشتها، بيت القصيد فيها هو الفضل الكبير لمهنة الصحافة علي.
ولعل مما يشجعني بقوة على كتابة هذا النص المؤجل، واقع القطاع في بلادي تونس. واقع متضارب المؤشرات.. السلبي فيه أكثر من الإيجابي للأسف.
تونس التي شهدت ثورة الياسمين وكسبت منها على الأقل سقفا عاليا للحريات، تعرف مشهدا إعلاميا انعكس فيه ذلك التحول الكبير كميا أكثر بكثير.. مما انعكس به نوعيا.
دونكم التقارير ذات العلاقة بالشأن والتي ترصد مظاهر خلل كبيرة، تقول لنا بكل وضوح إن القيم الجوهرية للمهنة.. ورسالتها لم تستوعب من فئة واسعة من العاملين في المجال، فبقوا يرونه وظيفة وراتبا.. وليس أمانة ثقيلة موضوعها.. رصد الواقع والتأثير في الرأي العام.
لهذا وذاك وغيره.. حدثتني نفسي مرارا.. بضرورة أن أكتب عن تجربتي مع صاحبة الجلالة وما الذي تغير في منذ أن صرت من أجنادها.
كنت ذات يوم خريج لغة وآداب عربية من كلية منوبة.. ثاني أكبر مركب جامعي في الجمهورية التونسية..
منوبة المعلم.. تلك التي كانت تضجّ بطلبة العلم وبنشاطهم العلمي والسياسي، بقصص الناس وعلاقات الحب.. وبما لا نهاية له من أحلام المستقبل.
كان لي نصيب من كل ذلك.. لكن الجانب الأكبر من بينها.. كان الانشغال بل والانغماس الفكري والسياسي في قضايا الشأن العام.
ككثيرين غيري، لم تكن معركتي في الحياة تقف عند حدود التخرج وتحصيل الراتب ولاحقا بناء أسرة.
كانت معركتي تجري داخل حرم كلية منوبة وتتجاوز أسوارها.. إلى أبعد بكثير: فلسطين والعراق ولبنان وقبلها مقارعة الاستبداد.
تشكل الوعي الذي أحمله بسعي دؤوب لتبني أجوبة لكل الأسئلة والقضايا، وكان الحسم في كل ذلك يفوق المعرفة التي أحملها، فالأهم هو مقارعة الخصوم وتبكيت المخالفين.
كنت غارقا في عالم المفترض.. ما يجب أن يكون عليه العالم.. وليس ما هو عليه بالفعل.. ضمن تفكير احتجاجي غاضب لشخص منحه سقفه النضالي العالي ومقدار معرفته سلطة معنوية لدى المحيطين به كان يتمتع بها من طرف خفي.
شخص كهذا، كان موعودا بالصدام مع “السيستام”.. وقد كان.. لسنوات تحولت شيئا فشيئا لمساحة تأمل ومراجعات وليس بالمرة تراجعات.
ضاق الخناق وتحولت المعركة من تغيير الواقع، إلى الدفاع عن آخر حصون المبدأ والشرف في مواجهة الأجهزة الأمنية.
كان يجب أن أنتظر سنوات طويلة.. ليتغير المشهد ببطء شديد وترتخي القبضة شيئا ما بعدما استنزفت مني كل الطاقات البشرية للتحمل.. وجاء حين من الدّهر طرحت فيه السؤال: والآن.. ما العمل؟
لعبت الأقدار لعبتها، وطرحت أمامي إمكانية للذهاب في اتجاه الصحافة.. ولم لا؟
أنا الذي أنفقت العمر في الأفكار والسياسات ومناكفة النظم ورصد القوى الإقليمية والدولية.. أليس حريا بي أن أستثمر في كل ذلك.. وقد كان.
خطوة خطوة دخلت عالم الإعلام، وداخله زاوجت شيئا فشيئا بين ما أحمله من زاد على تواضعه وبين مهارات المهنة وتقنياتها.. وجاءت الثمرة شغفا بالعمل الجديد واستسلاما تدريجيا للغرام بها إلى حد وصل اليوم درجة العرفان والامتنان.
بدأت الرحلة في تونس مع الصحافة المكتوبة في مجلة “حقائق” ومراسلا كذلك لمجلات ومواقع عربية.. ثم استقر بي الترحال في قناة الجزيرة.. متقلبا فيها بين أطوار مهنية حتى صرت رئيس تحرير نشرات ضمن فريقها.
تمنح الغربة الواحد منا كثيرا من الوقت حتى يسترجع حياته، فالذكريات هي حقيبتنا المثقلة نجرّها معنا أينما حللنا.. ومنها كنت أسحب في كل مرة ما مرّ بي في أطوار حياتي وما تغيّر فيها.
مع الوقت انصرف ذهني إلى ما بتُّ أسمية “فلسفة الصحافة” وقيمها.. وجعلت أقف عند ما تتشابه فيه مع مهنة القضاء من حيث طبيعة المهنة وقيمها وتأثيرها في المجتمع.
المتهم بريء حتى تثبت إدانته والشبهة تحسب لصالح المتهم والملف يبنى على الأدلة والقرائن وحق الدفاع مكفول.. مبادئ وجدتها على صلة في الجوهر مع طبيعة العمل الإعلامي، أعملت تأثيرها في تفكيري.. هي واللقاء المستمر بصناع الرأي والقرار.. السفر بين فينة وأخرى حيث التنوع الإنساني في أعمق وأثرى تجلياته.. وقبل ذلك وبعده.. حس نقدي وارتياب في كل شيء.. ما جعل كمّ الأسئلة أنضج وأكثر بكثير من أي أجوبة مهما كانت طبيعتها.
داخل ثقافة السؤال والحوار، اكتشفت محدوديتي بل جهلي أيضا.. اكتشفت إنسانيتي وتعلمت كيف أتسامح معها إلى حد أفضل بكثير من ذي قبل.
هذه المهنة حررتني.. من قيود بعضها براق آسر.. بعضها يقايضك بسلطة شكلية جوفاء.
لقد تغيرت وتغير العالم بمقدار تبدل نظرتي له.. فلقد صرت أفضل وأقدر على إعطاء الأمور أحجامها ووضعها في مواضعها الصحيحة.. إلى حد ما.. لكن أفضل بكثير جدا من ذي قبل.
عانيت كثيرا من كل من احتفظ عني بصورة قديمة، مصرا على عودتي إليها كلما تواصلت معه أو التقيته..
ومع فداحة الثمن.. وارتفاع الكلفة.. أزداد يقينا بسلامة المسار وصحة الوجهة..
وبفضل الصحافة علي..
شكرا صاحبة الجلالة
نبيل الريحاني
26 سبتمبر 2020