لايف ستايل

“شاهدت هذا من قبل”… ذاكرة زائفة أم الدماغ يخدعنا؟

سمية المرزوقي

“لقد رأيت هذا القطار من قبل، وسمعت هذا الصوت المعلن عن قرب محطّة بارديو تحديدا، في السابق… لكن كيف يمكن أن يحدث كل ذلك وأنا أسافر إلى مدينة ليون الفرنسية لأول مرة؟”. طوال تنقّلها من مطار “سانت اكزوبيري” إلى الفندق الذي اختارت قضاء العطلة فيه، لم تجد سليمة الصالحي إجابة منطقية لهذه الأسئلة.

تقول سليمة لبوابة تونس: “سافرت بداية الصائفة الفارطة رفقة عائلتي إلى فرنسا لأول مرة، للاحتفال بعيد ميلادي الأربعين، ولقضاء بعض الوقت هناك. لكن ما لم أستطع فهمه هو تكرار شعوري بحدوث بعض تفاصيل السفرة في السابق والحال أنّي لم أزر البلد في الماضي”.

كثيرون مثل سليمة يشعرون برؤية أحداث معيّنة في وقت سابق، ولا يجدون تفسيرا للظاهرة التي تزيد في إرباكهم عندما يعيشونها في مكان لم تطأه أقدامهم يوما.

تسمّى هذه الظاهرة “وهم سبق الرؤية”، أو ما يطلق عليها علميا “ديجا فو”، وهي كلمة فرنسية تعني “شوهد من قبل”. فكيف يفسّر العلم هذه الظاهرة؟ وما هي أسباب حدوثها المتكرّر؟

وهم سبق الرؤية

وهم سبق الرؤية، هو شعور الفرد بأنّه رأى الموقف الحاضر من قبل أو عاشه. ويلازم هذه الظاهرة شعور بالمعرفة المسبقة و”الرهبة” و”الغرابة”، أو ما سمّاه عالم النفس فرويد “الأمر الخارق للطبيعة”.

تُشير التقديرات إلى أنّ هذا الانطباع يؤثّر في حوالي 60% من الناس حول العالم، وهو يطال الإناث والذكور ويتناقص مع التقدّم في السنّ، حسب دراسة نشرتها مكتبة الطبّ الأمريكية.

ووفقا لعالم النفس السويسري آرثر فانخهوسر، يمكننا التمييز بين ثلاثة أنواع مختلفة: وهم سبق الرؤية ووهم سبق الإحساس ووهم سبق الزيارة لمكان ما.

ويمكن أن يكون هذا الإدراك مصحوبا بالشعور بالقدرة على توقّع ما سيحدث. وقد يستغرق مدة قصيرة تتراوح بين بضع ثوان ودقيقة أو دقيقتين، حيث يظهر ويختفي فجأة وبسرعة. 

ذكرت ظاهرة (ديجا فو) وهم سبق الرؤية لأول مرة تحت مصطلح “الذاكرة الزائفة”، من قبل الكاتب والفيلسوف القديس أوغسطينوس، في عام 300 ميلادي.

ومنذ منتصف القرن التاسع عشر، أذهل شعور “ديجا فو” الأطباء وعلماء النفس والفلاسفة والكتّاب. وكان الفيلسوف الفرنسي إيميل بواراك، أول من ابتدع مصطلح “ديجا فو” (شوهد من قبل)، ضمن كتابه “مستقبل العلوم الفيزيائية” عام 1876.

تفسير العلم

يفسّر الدكتور أكيرا أوكنور، كبير محاضري علم النفس في جامعة سانت أندروز الإسكتلندية، ظاهرة “ديجا فو” بأنّها “في الأساس صراع بين الإحساس بالألفة ومعرفة الأشياء سلفا، والوعي بأنّ هذه الألفة غير صحيحة”.

وأوضح، من خلال تقرير لموقع ساينس فوكس البريطاني، أنّ إدراك الشخص بأنّه “بصدد التعرّض للخداع، هو ما يجعل هذه الظاهرة فريدة جدا مقارنة بأحداث الذاكرة الأخرى”.

ويؤكّد علماء الأعصاب أنّ وهم سبق الرؤية ليس علامة على إصابة الدماغ بمرض أو خلل ما. ورجّحوا حدوث هذه الظاهرة عندما تحاول المناطق الأمامية من الدماغ تصحيح ذاكرة غير دقيقة.

فقد تعدّ تجربة هذا الشعور أمرا جيّدا لغالبية الناس، لأنّه علامة على أنّ مناطق بالدماغ تعمل بشكل جيّد، وتتحقّق من الحقائق والذكريات.

يقول دكتور أوكنور: “في الشخص السليم، يحدث مثل هذا التذكّر الخاطئ كل يوم. وهذا أمر متوقّع، لأنّ ذاكرتك تتضمّن الملايين والمليارات من الخلايا العصبية. إنّها فوضوية للغاية”.

رغم عدم وجود نموذج متّفق عليه يشرح بدقة ما يحدث في الدماغ أثناء الشعور بوهم سبق الرؤية، فإنّ معظم النظريات العلمية تشترك في الفكرة ذاتها: يحدث ذلك عندما تغذّي مناطق الدماغ (مثل الفص الصدغي) المناطق الأمامية للعقل بإشارات إلى أن تُعيد تجربة سابقة نفسها.

بعد ذلك، تتحقّق مناطق اتّخاذ القرار الأمامية في الدماغ بشكل فعّال، لمعرفة ما إذا كانت هذه الإشارة متوافقة مع ما هو ممكن أم لا. سوف يسأل “هل كنت هنا من قبل؟”.

إذا كنت بالفعل في هذا المكان من قبل، فقد تُحاول جاهدا استعادة المزيد من الذكريات. إذا لم تكن كذلك، حينها فقط يمكن أن يحدث إدراك وهم سبق الرؤية.

الأشخاص الأكثر عرضة للظاهرة

قدّر دكتور أوكنور أنّ الشخص السليم يختبر وهم سبق الرؤية مرة واحدة في الشهر في المتوسّط. لكن هناك عدّة عوامل يمكن أن تزيد من فرصة تكرار هذا الشعور.

ويشرح الأخصائي الإسكتلندي أنّ التعب والتوتّر يزيدان من احتمال الشعور باسترجاع الذكريات الوهمية، لأنّ الدماغ المرهق لا يترك فرصا جيّدة للأنظمة العصبية الداخلية لتنظيم نفسها.

أبرزت الأبحاث أيضا وجود صلة محتملة بين الناقل العصبي الدوبامين (وهو مادة معزّزة للمزاج معروف) وظاهرة “ديجا فو”.

هناك أيضا عامل آخر هو عامل السنّ. فالشباب أكثر عرضة لاختبار هذا الشعور، لأنّهم أكثر نشاطا وتشهد أدمغتهم أيضا نشاطا أكبر للتحقّق من صحة الوقائع.