في مثل هذا اليوم 17 مارس/ آذار من العام 1892 ولد بالإسكندرية الفنان سيد درويش مجدد الغناء وباعث النهضة الموسيقية في مصر والوطن العربي.
وانطلق مشوار السيد درويش البحر (اسمه الحقيقي)، الفني بإنشاده مع أصدقائه ألحان الشيخ سلامة حجازي والشيخ حسن الأزهري، قبل التحاقه بالمعهد الديني بالإسكندرية عام 1905، ليتفرّغ بعدها للغناء في المقاهي.
تزوّج درويش وهو في السادسة عشرة من العمر، وصار مسؤولا عن عائلة، فاشتغل مع الفرق الموسيقية، لكنه لم يوفّق، فاضطر إلى أن يشتغل عامل بناء، وكان خلال العمل يرفع صوته بالغناء، مثيرا إعجاب العمال وأصحاب العمل، وصادف أن كان الأخوانأمين وسليم عطا الله، وهما من أشهر المشتغلين في المجال الفني، موجودين في مقهى قريب من الموقع الذي كان يعمل فيه درويش، فاسترعى انتباههما ما في صوت هذا العامل من قدرة وجمال، واتفقا معه على أن يرافقهما في رحلة فنية إلى الشام في نهاية عام 1908.
في العام 1912 رحل درويش إلى الشام وبقي هناك حتى العام 1914، حيث أتقن أصول العزف على العود وكتابة “النوتة الموسيقية”، فبدأت موهبته الموسيقية تتفجّر، ولحن أول أدواره “يا فؤادي ليه بتعشق”.
في عام 1917 انتقل إلى القاهرة، ومنذ ذلك سطع نجمه وصار إنتاجه غزيرا، فلحن لكافة الفرق المسرحية في عماد الدين أمثال فرقة نجيب الريحاني، جورج أبيض وعلي الكسار، حتى قامت ثورة 1919 فغنى “قوم يا مصري”.
في الفترة التي عمل فيها “الشيخ الشاب” على “المسارح الرخيصة” عرف أمرين لم يكن له سابق معرفة بهما: النساء وصياغة الألحان، فالتعارف الأول طبيعي أما التعارف الثاني فكان بحكم الموهبة المتأصلة في نفسه وروحه، وكلاهما فطري بالنسبة إلى “فنان الشعب” أو “خادم الموسيقى” كما وصّفه النقاد، كما أن ألمه الكمين في نفسه كان السبب في أن يخرج إلى الوجود بلغته الفلسفية النغمية فيسحر بجمالها الألباب ويُرقص النفوس.
ما كان درويش يُلحّن أغنية حتى يردّدها أفراد الشعب الذي يُقيمالأفراح والمسارح الغنائية وموسيقات الجيش والموسيقات الأهلية، والسر وراء شهرته يعود إلى أن كل لحن يُنجزه له قصةومناسبة ولكل مناسبة أثرها العميق في نفسه المرهفة فأول أغنية لحنها كانت “زوروني كل سنة مرة حرام تنسوني بالمرة”، وكانت مناسبة تأليفها أن امرأة يحبها قالت له هذه العبارة “ابقى زورنا يا شيخ سيد ولو كل سنة مرة”.
القوة والسلاسة في كلمات درويش وألحانه لم يكونا على سبيل المصادفة، فميلاده أثناء الاحتلال البريطاني لمصر، ووجود حركة وطنية قوية في البلد كان لهما بالغ التأثير في أعماله، فانتقد قرارات الملك فؤاد الأول بأغنيات مثل “الحلوة دي قامت تعجن في الفجرية”، و”أهو دا اللي كان”، و”شد الحزام”، وامتدت إسهاماته الفنية إلى ثورة 1919، إذ قدّم أغنيات شهيرة مثل “قوم يا مصر مصر دايما بتناديك”، و”يا بلح زغلول”، وهو ما منحه لقب “فنان الشعب” الذي استحقه بجدارة، فاختلاطه بالحواري والقرى والتنوّع الثقافي بين الشمال والجنوب جعله الأقرب إلى المصريين في تلك المرحلة.
ولم تكن السياسة هي الهم الوحيد الذي شغل سيد درويش، فإلى جانب أعماله الوطنية التي لم تضاهيها أية أعمال أخرى في تلك الحقبة، عبّر بموسيقاه أيضا عن المجتمع بطريقته التي اتّسمت بالعفوية والبساطة، لكن بعمق. فقدّم اللون العاطفي في أغان مثل “أنا هويت”، و”زوروني كل سنة مرة”، و”أنا عشقت”، كما شارك مع الفرق الشهيرة آنذاك ومنها فرقة نجيب الريحاني، وقدّم الكثير من الأوبريتات الغنائية والمسرحيات، فمنذ مجيئه إلى القاهرة عام 1917 وبداية احترافه الفن وحتى وفاته عام 1923 قدم ألحان 22 أوبريت، و17 موشحا منها “يا شادي الألحان”، و”يا بهجة الروح”، و”يا صاحب السحر الحلال”، وخمسين طقطوقة، والفصل الأول لأول أوبرا كان قد شرع في تلحينها بعنوان “كليوباترا ومارك أنطونيو”.
وهو الذي أدخل الغناء البوليفوني للمرة الأولى في الموسيقى العربية عبر أوبريت “العشرة الطيبة” وأوبريت “شهرزاد والبروكة”.
توفي درويش في الإسكندرية في العاشر من سبتمبر/ أيلول من العام 1923 بعد إصابته بنوبة قلبية في منزل شقيقته، وأقيمت له جنازة متواضعة لم يحضرها سوى القليل من الأهل والأصدقاء، رغم شهرته الواسعة بين أفراد شعبه، ويعود ذلك أساسا إلى انشغال الشعب يومها باستقبال سعد زغلول العائد من المنفى.
رحل درويش ولم يمت في قلوب المصريين، وهو الذي لحّن النشيد الوطني المصري “بلادي” عن كلمات محمد يونس القاضي، فخلّد ذكراه لأجيال قادمة.