على عكس “محل شاهد”.. “سلّة سلّة” قدّم نموذجا لعائلة تونسية مُتصالحة مع مُتناقضات علاقاتها الدخيلة حدّ الخيال العلمي!
صابر بن عامر
على غير عادة الوطنية الأولى (عمومية)، فاجأت جمهورها مع بداية 2025، ببثها سيتكوم “سلّة سلّة” خارج الموسم الرمضاني الإنتاجي اليتيم في تونس، وهو ما يُحسب لها.. إلى حين.
عمل بشّرت حلقاته الأولى -وصلت إلى حدود كتابة هذه الأسطر إلى عشرة- بنوعية جديدة، بل قديمة متجدّدة من الدراما التوعوية في شكل كميدي “لايت”، يُحيلنا بشكل ما إلى السلسلة التلفزيونية “محل شاهد” للراحلين رمضان شطا (تمثيلا وكتابة) ودلندة عبدو، ومن إخراج بولبابة المرابط.
بين الهوية الوطنية والسلوكات الدخيلة
لكن شتّان بين “محل شاهد” سبعينات القرن الماضي وثمانيناته، و”سلّة سلّة” العشرية الثانية من الألفية الثالثة!
فـ”محل شاهد” زمن الأبيض والأسود تدور أحداث سلسلته المتصّلة المنفصلة حول زوجين هما “حميداتو” (رمضان شطا) و”هناني” (دلندة عبدو)، إضافة إلى بعض الجيران.
أين يقع في كل حلقة استعراض مثل شعبي تونسي أو لغز عن طريق موقف طريف تعيشه إحدى الشخصيات، ثم السعي إلى معرفة هذا اللغز وحلّه، بشكل توعوي لطيف.
أما “سلّة سلّة” الألفية الثالثة، وهي من تأليف حاتم بلحاج وبمساعدة صادق حلواس، وإخراج محمد علي ميهوب، فهي عن حياة زوجين “كريم” (عبدالمنعم شويات) و”أنيسة” (نجلاء بن عبدالله)، اللذين يمتلكان مطعما على وشك الإفلاس، بخطإ اتصالي أو بعبارة أدق بمكيدة دُبّرت لـ”الشاف” عباس (الشاذلي العرفاوي).
تدخل على الخط إحدى المؤثرات عبر مواقع التواصل الاجتماعي والمختصّة في التغذية “ملاك” (سميرة مقرون) لإنقاذ ما يُمكن إنقاذه، مُحاولة إدخال الطعام الصحي للمطعم.
وهو أمر محمود ومشكور ومثمّن، أصلا، بتركيزه وتأطيره للعادات الغذائية السيئة التي ما انفكّت تُعاني منها الأسر التونسية في زمن “الفاست فود” (الأكلات السريعة)، وما يفرضها عليها نسق العصر المُتسارع.
كلّ ذلك جميل وأصيل، سيما أنّ الجُمل التوعوية بين أبطاله لم تأت عمودية بشكلها المباشر الجاف، أو في شكل مواعظ فوقية مفروضة فرضا على المُشاهد، كما هو حال بعض الومضات التوعوية القديمة المنفّرة أكثر منها المحفّزة.
حوارات ومشاهد جاءت جميعها في قالب هزلي أقرب إلى كوميديا الموقف، دون ابتذال ولا مبالغات في التهريج السطحي.
زادت في وصولها السلس إلى عقل المتقبّل قبل قلبه، الأداء المُتقن لجلّ الممثلين دون استثناء من نجلاء بن عبدالله، التي تُثبت في كل عمل تُشارك فيه سواء مسرح أو سينما أو تلفزيون، أنها رقم صعب ومميّز في عالم الدراما والكوميديا على السواء.
مرورا بالعائد بعد سنوات من الغياب عن الدراما التلفزيونية بألقه المُعتاد عبدالمنعم شويات، من خلال أدائه المرح والصادق دون تكلّف.
إضافة إلى الشاذلي العرفاوي، وسميرة مقرون، وأميمة محرزي، وغانم زرلي، ورباب السرايري، ورياض حمدي..
وصولا إلى الوجهين الجديدين الطفل إلياس الأندلسي والموهبة الشابة غفران قريشي.
وجلّهم، إن لم نقل كلّهم، جسّدوا شخصياتهم بكذب صادق، وهو أرفع درجات الأداء التمثيلي الحقّ.
أضف إلى ذلك الإخراج المُتقن والمشغول على نار هادئة، أسوة بعنوان السلسلة “سلّة سلّة” لمحمد علي ميهوب، في تقطيعاته الأقرب إلى السينما منها إلى الدراما التلفزيونية.
لكنّ المَعيب والغريب، ربما في مقارنة “سلّة سلّة” بـ”محل شاهد” إن جازت المُقارنة أصلا بين عملين في زمنين مختلفين وبتقنيات مُختلفة، إلّا أنهما يجتمعان في بعدهما الكوميدي التوعوي، ولو بقياس، أنّ “محل شاهد” جاء انعكاسا لانشغالات التونسيين وهمومهم اليومية في زمن بناء الدولة الوطنية، وترسيخا للهوية التونسية بكل جزئياتها وطموحاتها، عصرئذ.
في حين أتى “سلّة سلّة”، سيما في تعرّضه للعلاقات الأسرية، لا يمتّ لا من قريب ولا بعيد بواقع الأسر التونسية المحافظة، أو هكذا خُيّل إلينا!
قبل أن يُقدّم “سلّة سلّة” نموذجا لعائلة تونسية مُتصالحة مع تناقضات ومُفارقات علاقاتها الدخيلة والغريبة، حدّ الخيال العلمي!
فأن تجتمع طليقة الأب مع طليق الأم، والزوجين الجديدين، بأبناء غير أشقاء في بيت واحد، يسوده التحابب والتآزر والتفاهم، وإن ظاهريا، فذاك هو الإعجاز الدرامي الذي أتاه “سلّة سلّة”.
تآزر أسري مُنفتح حدّ الدهشة!
وفي معرفة السبب، يبطل العجب، بكلّ تأكيد.. فشارة نهاية المسلسل تُسقط كل ما تقدّم من تعجّب، وإعجاب أحيانا، بهذا التآزر الأسري المُنفتح حدّ الدهشة!
ففي جينيريك/ تتر الختام نقرأ بوضوح ما يلي: “تمّ إنتاج هذا المسلسل التلفزيوني من قبل Ogilvy Paris/Molt Tunisie لصالح برنامج الأغذية العالمي (PAM) التابع للأمم المتحدة”.
وذلك في إطار برنامج دعم التنمية المستدامة في قطاع الزراعة والصيد الحرفي في تونس (ADAPT) المموّل من الاتحاد الأوروبي، والمنّفذ من قبل الوكالة الإيطالية للتعاون من أجل التنمية (AICS).
وهو ما يعني بوضوح، ودون شكّ أنّ العمل ليس سلسلة هزلية تونسية 100%، لا قلبا ولا قالبا، إنّما سلسلة توعوية موجّهة من الخارج.
ومتى تدخّل التمويل الأجنبي-الخارجي في عمل درامي أو سينمائي تونسي-داخلي، ما عاد العمل يُشبهنا لا من قريب ولا من بعيد، بل ومن بعيد جدا عن عاداتنا وتقاليدنا التونسية المتوارثة جيلا بعد جيل.
ومع ذلك يبدو أنّه بات للوطنية الأولى، بوصفها مؤسّسة عمومية مرسّخة للهوية الوطنية، رأي آخر، أكثر انفتاحا من القنوات الخاصة، التي لو عُرضت “سلّة سلّة” على ذبذباتها، فلا لوم عليها، وعلى بعض ذُبابها المُحدث لـ”البوز” قسرا وعمدا ودعما من المُستشهرين الباحثين عن الإثارة قبل المحتوى دائما وأبدا.
لكنّ “الوطنية” وما أشقانا مع الوطنية، في مثل هكذا اختيار، الذي لا يليق بتاريخها الضارب في ترسيخ الهوية التونسية، أساءت من حيث لا تدري، أو وهي تدري، لرسالتها التربوية والتوعية المُنتصرة قطعا لقيم الأسرة، أصل المجتمع وصلاحه.. أو هكذا سوّقت لنا أهدافها واستراتيجياتها لعقود من البثّ مدفوع الأجر من إيتاواتنا المُقتطعة من “فواتيرنا” عُنوة!؟