محمد بشير ساسي
على مدار 12 شهرا من الحرب الوحشية المدمّرة التي أتت على الأخضر واليابس في قطاع غزة المحاصر، ما يزال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو صامدا أمام عاصفة الضّغوط الداخلية والخارجية، يرفض الرّضوخ المتزايدة لإبرام اتفاق لوقف إطلاق النار تتيح الإفراج عن الرهائن المحتجزين لدى حركة حماس.
لعبة التدمير
في كل مرّة تدخلُ فيه إسرائيل جولة من المفاوضات يتعمّد نتنياهو تعقيد الأمور بالقول إنّ تل أبيب لن تقبل مقترحا يتضمّن إنهاء الحرب، فلا يمنحُ مساحة كافية لفريق التفاوض الذي يرسله من “أجل التقدّم أكثر نحو الانفراج، بل يمارسُ لعبته “التدميرية”على الطاولة بفرض شروط جديدة مجحفة وغير قابلة للتطبيق على أرض المعركة، تتبنّاها الإدارة الأمريكية وتطالبُ من حماس بالموافقة عليها، وإلّا تتّهمها بعرقلة مسار حلحلة الأزمة المعقدة ونسفه.
في آخر فصول “لعبة تصريحاته المتعنّتة” وفي ذروة الحراك الشعبي الداخلي، وجّه رئيس الوزراء الإسرائيلي رسالة واضحة لا تقبل التأويلات والتفسيرات كثيرا، مفادها: لا وقف للحرب على غزة قبل القضاء على حكم حماس التي تشنّ حربا نفسية على مواطني إسرائيل وحكومته على حدّ وصفه. وخلال الكلمة التي ربما تكون الأطول منذ بدء حرب الإبادة، أكّد نتنياهو صراحة أنه لن يبدي أيّ مرونة فيما سماها “الأمور الحساسة” ولن يقبل بالانسحاب من محور فيلادلفيا (الذي جعله حجر العثرة أمام أي صفقة).
هجمة واسعة
فسّرت تلك التصريحات -وفق مراقبين- بأنّ “محور صلاح الدين” بات بمثابة الورقة الأخيرة في يد نتنياهو بعدما استنفد كل تكتيكاته وخططه الفاشلة، وبالتالي لن يتراجع قيــد أنملة للعبها من أجل الترويج عبثا بأنه قبل 7 الماضي لم تكن لدى إسرائيل الشرعية المحلية ولا الدولية لإعادة احتلال قطاع غزة والسيطرة على “محور فيلادلفيا” على حدّ قوله.
وفي محاولة منه للسيطرة على غليان الجبهة الداخلية بعد، اعتمد نتنياو مجدّدا سياسة تخويف المجتمع الإسرائيلي، بوجوب فهم الموقع المركزي لمحور فيلادلفيا الذي يستخدمه المسلحين للتسلل من غزة إلى سيناء ثم ينتقلون إلى اليمن وإيران ومناطق أخرى، مشدّدا على أنّ الجيش الإسرائيلي إذا غادر محور فيلادلفيا فلن يتمكّن من العودة إليه والسيطرة عليه وبالتالي أيّ قرار بإلغاء بقاء القوات الإسرائيلية هناك “يُعد جائزة للإرهاب” وفق تعبيره.
ظن نتنياهو أنّ توظيف “تكتيك محور فيلادلفيا” في المفاوضات سيمكّنه الهروب من أزماته وفشله إلى الأمام عبر البقاء في مساحة رمادية لا تستدعي اتخاذ قرارات حاسمة، غير أنه قوبل بهجمة إعلامية واسعة تصف موقفه بالمشين من جميع النواحي وتتّهمه بالانصياع لدوافع “سياسية إجرامية” بدلا من اعتبارات أمنية حقيقية وفق ما أوردته صحيفة “هآرتس”.
وسخرت اليومية الإسرائيلية على لسان الكاتب تسافي بارئيل من تمسّك نتنياهو والكابينت بمحور فيلادلفيا كما لو أن الأمر يتعلق باستعادة “الأرض الموعودة” في الوقت الذي يقر فيه الجيش والاستخبارات الداخلية الإسرائيلية بعدم أهميته.
أما صحيفة يديعوت فكتبت مقالا بعنوان “العقد مختل والدولة لن تبذل قصارى جهدها”، موضّحة بين سطوره أنّ إسرائيل أخلّت بالتزاماتها نحو مواطنيها بموجب عقدها الاجتماعي، بعد أن تقاعست عن نجدة الأسرى وضحت بهم قربانا على مذبح محور فيلادلفيا على حد وصفها.
وتابع كاتب المقال رعنان شاكيد أنّ على إسرائيل أن تدرك أنها باتت وقود حرب لحكومة لا تتورّع مطلقا عن التضحية بهؤلاء المواطنين لخدمة سياسة تقوم على التهرّب من المسؤولية وتحاشي التوصّل إلى صفقة.
وزارد تعنّت رئيس الوزراء الإسرائيلي زاد من تأجيج المعركة داخل الكابينت السياسي مع وزير دفاعه يوآف غالانت، ووصل الأمر إلى غاية اندلاع مواجهة حادة واشتباك غير مسبوق بينهما، على خلفية أنّ صوت المسؤول العسكري ظل يردّد دون تراجع، بكون قرار البقاء في محور فيلادلفيا “قيد غير ضروري وثانوي بالنسبة إلى حياة المحتجزين”، مشدّدا على أنّ الاستمرار بهذا النهج يعني عدم تحقيق أهداف الحرب.
وبالتوازي مع ذلك استغل السياسيان المستقيلان من مجلس الحرب بيني غانتس وغادي آزنكوت الفرصة لتضييق حبل الضغوط أكثر حول رقبة نتنياهو بدحض مزاعمه حول محور فيلاديلفيا بتأكيد أنه لايشكّل “تهديدا وجوديا” لإسرائيل وموقعها الإستراتيجي لن يرتفع وينخفض عليه.
ودخل زعيم المعارضة الإسرائيلية يائير لبيد على خط الهجمات والانتقادات لطريقة تعامل رئيس الوزراء الإسرائيلي مع الوضع في قطاع غزة متّهما إياه بالرضوخ إلى وزيره المتطرفين إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش المعارضين لأي حلول سياسية تشمل الانسحاب من المحاور الحدودية.
ويرى لبيد أنّ استمرار الحرب ليس في مصلحة إسرائيل، وأنّ البلاد تحتاج إلى العودة للاستقرار وإعادة بناء الاقتصاد، معتبرا أنّ مواقف نتنياهو هي مجرد أعذار لمنع تنفيذ صفقة تبادل الأسرى وأنّ مفهوم الأمن الإسرائيلي يعتمد دائما على خوض حروب قصيرة الأمد
صمود نتنياهو
لكن نتنياهو الذي يتناوب على كرسي رئاسة الوزراء منذ عام 2009 والمحاصر بأزمات داخلية وهواجس أمنية وحراك شعبي تقوده أحزاب المعارضة ومجموعة عائلات المحتجزين، والمختزل في صورة السياسي المنبوذ والملاحق في المحاكم الدولية، ما يزال مستمرا في فرض سطوته على المشهد السياسي في إسرائيل، وما تزال حكومته التي بدأت ولايتها بخطة الانقلاب على الجهاز القضائي صامدة والأكثر تماسكا في تاريخ حكومات إسرائيل.
مع طرح السؤال الأكثر إلحاحا عن السر وراء بقاء نتنياهو في منصبه وعدم سقوط حكومته اليمينية المتطرفة حتى الآن، وهي التي تدفع إسرائيل نحو حافة الهاوية، يتفق عديد الباحثين بالشأن الإسرائيلي على أنّ هناك مجموعة من العوامل التي تبقي نتنياهو متصدرا للمشهد السياسي وتعزيز شعبيته رغم فشله الذريع في تحقيق جميع أهداف الحرب وإضراره بمصالح الكيان الصهيوني في المنطقة والعالم.
1- العوامل الداخلية:
– هيمنة الطرح والمشروع السياسي لنتنياهو على المجتمع الإسرائيلي في ظل معارضة إسرائيلية ضعيفة وغير موحّدة في مواجهة الحكومة الإسرائيلية.
– امتلاك نتنياهو ائتلافا حكوميا يمينيا متماسكا، وإن كانت هناك بعض الفجوات فيه، حيث إنّ أحزاب اليمين المتطرف ممثلة في تيار “الصهيونية الدينية” برئاسة وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، وحزب “عظمة يهودية” برئاسة وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير لديها مصلحة في السيطرة على مفاتيح الحكم في إسرائيل ومقاليد السلطة، وبيدها وزارات المالية والدفاع والاستيطان والأمن القومي والشرطة والإدارة المدنية، وأيّ مخاطرة
بإسقاط الائتلاف والذهاب لانتخابات مبكرة يعني أنه من الممكن ألا يتكرّر مثل هذا الائتلاف.
– اعتماد نتنياهو سياسة ونهج تخويف المجتمع الإسرائيلي إلى درجة ترهيبه من المخاطر الوجودية من دول الإقليم، إذ لوّح لسنوات طويلة بـ”الفزاعة الإيرانية”، ثم أتت “عملية طوفان الأقصى” ليستغلها بطريقة محكمة للترويج بأن إسرائيل تخوض معركة “وجودية”، واعتبر ما يحصل على جبهتي غزة ولبنان حرب “استقلال ثانية.
– افتقاد إسرائيل “للقيادة الشجاعة”، مما مكّن نتنياهو من التدرج في الحكم والقضاء على منافسيه المحتملين، ليحظى بشعبية غير مسبوقة ويتصدّر حزب الليكود ومعسكر اليمين الذي يهيمن على المشهد السياسي، وسط تراجع تيار المركز وغياب اليسار الصهيوني.
– عدم ارتقاء الحراك الشعبي الإسرائيلي إلى مستوى الحدث والحالة مع استمرار الحرب، وسط انكشاف القرار الإستراتيجي الذي اتخذه نتنياهو بدعم من ائتلاف أحزاب اليمين بالتضحية بالمحتجزين.
2- العوامل الخارجية:
– الدعم الأمريكي السياسي والعسكري غير المحدود لإسرائيل منذ بداية الحرب، الأمر الذي عزّز من قناعة الإسرائيليين أنّ نتنياهو هو “الأفضل بالدبلوماسية الخارجية وبالعلاقات مع الولايات المتحدة رغم الأزمات.
– عدم ترجمة قرارات مجلس الأمن على أرض الواقع، حيث كان آخرها مشروع قرار أمريكي -تطبيقا لصفقة مقترحة أعلنها الرئيس الأمريكي جو بايدن- تم تبنّيه في جوان الماضي بمجموع 14 صوتا، ونصّ على “وقف إطلاق نار دائم والانسحاب التام من غزة، وتبادل الأسرى والإعمار، وعودة النازحين، ورفض أيّ تغيير ديمغرافي للقطاع.
– تعمّد تل أبيب وحكومة نتيناهو تجاهل نداءات الدول والمنظمات الإنسانية لاحترام المواثيق الدولية الملزمة ووقف حرب الإبادة التي أحرقت غزة وأهلها العزل طيلة 12 شهرا من القتل والدمار والتجويع والتشريد.
– عجز محكمة العدل الدولية عن منح قراراتها الصبغة القانونية والإخلاقية، بإلزام إسرائيل اتخاذ كل الإجراءات التي في وسعها لمنع ارتكاب جميع الأفعال ضمن نطاق المادة الثانية من اتفاقية الإبادة الجماعية وكذلك إنهاء وجودها غير القانوني في الأراضي الفلسطينية المحتلة في أسرع وقت ممكن.
– التأخير في إصدار مذكرات اعتقال في حق نتنياهو وغالانت بتهم ارتكاب جرائم حرب في غزة من قبل المدّعي العام لمحكمة الجنائية الدولية، كريم خان الذي كشف بأنه يتعرّض لضغوط من قادة دول حليفة لإسرائيل بالتراجع عن خطوته المنتظرة.
الشارع هو الحلّ
في المحصلة، صحيح أنّ نتنياهو ما زال يراهن على استمراره في الحكم لفترة أطول مدفوعا بكثير من الحوافز التي تفتح أمام الطريق للتشبث أكثر في مواقفه المتصلة تجاه أيّ تسوية أو صفقة للتهدئة، غير أنّ هذه المناخات برأي محلّلين يمكن أن تنقلب ضد خطط رئيس الوزراء وحكومته خصوصا مع ارتفاع الأصوات المطالبة بوقف “الحرب بشروطها الخاصة” بعدما أضرّت بمصالح إسرائيل من الناحية الأمنية والاقتصادية والسياسية.
تتزايد القناعة يوما بعد يوم داخل إسرائيل بأنّ الكيان الصهيوني ليس مؤهلا لخوض حروب طويلة وفق تقدير الرئيس السابق لجهاز الأمن العام الإسرائيلي (الشاباك) ناداف أرغمان، وكذلك الاعتقاد على نطاق واسع -على غرار الجنرال الإسرائيلي المتقاعد إسحاق بريك- بأنّ إصرار البعض في حكومة نتنياهو على الاستمرار في هذه الحرب الخاسرة، وظنهم أنّ وقف إطلاق النار يعني الهزيمة والاستسلام، خطر على إسرائيل وليس على (حماس).
وبالتالي أضحت فرضية استعداد رئيس الوزراء الإسرائيلي تقديم تنازلات في مفاوضات تبادل الأسرى أو إسقاطه من الحكم مرتبطة بالشارع الإسرائيلي وسقف الحراك الشعبي، خصوصا أنّ الإدارة الأمريكية غير قادرة على دفعه للقبول باتفاق، وكلما تأخّر ذلك زاد هوس نتنياهو بالسلطة وهو الأشد ضررا والأسوأ بين 14 رئيس وزراء عرفتهم إسرائيل خلال 76 عاما وفق تصنيف مجلة “أتلانتك” الأمريكية، وليس ببعيد في عهده ينزلق الكيان الصّهيوني نحو حرب أهلية بين الدينيين والعلمانيين كما صرّح بذلك رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود أولمرت وغيره من السياسيين والمسؤولين العسكريين والخبراء.