تونس رأي سياسة

سعيّد يلجأ إلى التشريع بالمراسيم خلال الحملة الانتخابية.. لماذا؟ 

إنّ أهم ما في المرسوم هو تداركُ التأخير في إنجاز قانون يتيح للرئيس القادم أداء القسم أمام مجلسيْ النواب والأقاليم.. وذلك حتى نضمن استمرار “حرب التحرير”..

عبدالسلام الزبيدي 
لجأ قيس سعيّد رئيس الدولة والمترشّح للانتخابات الرئاسية إلى ما يمكن وصفه بالتشريع الذاتي أو التشريع بالمراسيم، بالرغم من انطلاق الحملة الانتخابية بالخارج يوم 12 سبتمبر الجاري، وقبيل يوم واحد من انطلاقها بالداخل. وإنْ كان هذا التصرّف لا يتناقض مع مقتضيات الدستور الذي خطّه بيده وتمّ نشره في أوت 2022، فإنّ اللجوء إلى هذا “الحق الدستوري” خلال الزمن الانتخابي يثير التساؤلات في الحد الأدنى، ويدعو إلى الوقوف على دلالات هذا الفعل السياسي وأبعاده.
إنّ المسألة لا تتعلّق بالشرعية القانونية أو الدستورية وإنّما بالبُعدَيْن السياسي والإيتيقي (الأخلاقي أو القيمي). سبق أن بيّننا أنّ إجراء سعيّد لتغيير شامل للحكومة بمن في ذلك رئيسها، وشفْعِها بإعفاء كلّ من تبقّى من الولاة وتعيين 24 واليا جديدا بعد انطلاق الفترة الانتخابية، أمرٌ غير مألوف في العرف السياسي التونسي والدولي.

قتْلُ المساواة بين المترشّحين

تكون التغييرات الشاملة للحكومة والولاة والمعتمدين والمسؤولين عن المؤسسات العمومية بعد الفوز في الاستحقاق الانتخابي وليس قبله. أمّا القيام بها قبيل أسابيع من الاقتراع، فإنّه يوحي بأنّه لا معنى لدى من اتّخذ القرارات للفترة الانتخابية وخصوصياتها، وأنّه لا فرق بين ما قبل الانتخابات وما بعدها، حتى وإن لم يقصد من أجرى التحويرات ذلك.
تَقْتُلُ مثل تلك القرارات مبدأً هامًّا من المبادئ الانتخابية، ألا وهو المساواة بين المترشّحين. لا تتعلّق المساواة بإخضاع كلّ المترشّحين إلى الإجراءات ذاتها لقبول الملفات، وتطبيق الإلزامات نفسها، والتمتّع بالحق في تعليق الصور على الحيطان وقياس مدّة الظهور في وسائل الإعلام بالدقيقة والثانية. إنّها تتعلّق بما يمكننا وضعه في خانة المسائل الاعتبارية. والمقصود هو أنْ يكون تصرّف الرئيس المنتهية ولايته بطريقة لا تُشْعِر عموم الشعب أنّه أعْلى مقاما من باقي المترشّحين، فهو متنافس كغيره يرتضي قبول نتائج مُنَافسةٍ تكون بدايتها للجميع من نقطة الإنطلاق نفسها.
أمّا أن يقوم السلوك السياسي للمتربّع على كرسي الرئاسة على ما يوحي بأنّه مستمر في الحكم من خلال اللجوء إلى أقصى ما يتيحه الدستور والقانون، ففي ذلك مسٌّ بقيمة المساواة. لا تنحصر السياسة في ما هو دستوري وقانوني، بل تتجاوزه إلى الأخلاقيات السياسية. فمن حق الرئيس المنتهية ولايته الحفاظ على السير العادي لدواليب الدولة، لكن عليه أن ينطلق في المباراة التنافسية بطريقة تكون فيها الحظوظ متساوية.
لم يكتف قيس سعيّد بتغيير رئيس الحكومة أوّلا، فالحكومة ثانيا، وإثرهما عموم الولاة، بل استعمل حقّا دستوريا في زمن من المفترض ألّا يستعمله فيه. وهذا الحق الدستوري هو ما نصّ عليه الفصل 73 ومضمونه: “لرئيس الجمهورية أن يتّخذ خلال عطلة المجلس بعد إعلام اللجنة القارة المختصة مراسيم يقع عرضها على مصادقة مجلس نواب الشعب وذلك في الدورة العادية الموالية للعطلة”.
وبمقتضى هذا الفصل ترأسّ سعيّد يوم انطلاق الحملة الانتخابية الرئاسية بالخارج (12 سبتمبر 2024) مجلسًا للوزراء عرض خلاله مشروع المرسوم المتعلق بتنظيم العلاقات بين مجلس نواب الشعب والمجلس الوطني للجهات والأقاليم. وبعد 24 ساعة فقط تمّ نشره بالرائد الرسمي للبلاد التونسية، وذلك قبل يوم واحد من انطلاق الحملة الانتخابية بالخارج.

في سوابق التأخير والتعطيل

ما الذي جعل رئيس الجمهورية قيس سعيّد يستعجل النظر في هذا القانون ويُضطرّ إلى المصادقة عليه ونشره في شكل مرسوم من الواجب إعادة النظر فيه عند عودة مجلسيْ النواب والأقاليم من العطلة بعد نصف شهر فقط؟ السبب في تقديري هو ضرورة أن يؤدي الفائز في الانتخابات القادمة القَسَم أمام المجلسين تطبيقا لما جاء في الدستور الذي خطّه سعيّد بيديه ونشره في أوت 2022 وأطلق عليه اسم دستور 25 جويلية.
دعا رئيس الجمهورية في مناسبات عديدة إلى ضرورة التعجيل بتنظيم العلاقة بين المجلسين في أقرب الآجال، وذلك منذ إتمام مراسم انتخاب المجلس الوطني للجهات والأقاليم الذي عقد أولى جلساته يوم 19 أفريل الماضي. وقد تلت الدعوات المتكرّرة تعليقات بمستوى الانتقادات من المتخصّصين في القانون الدستوري تدور حول ثغرات البناء الدستوري الذي أرساه صانع إجراءات 25 جويلية وصانع النظام القاعدي ومؤسساته.
فمن المفترض أن تكون العلاقة بين المجلسين محدّدة قبل التأسيس والإنشاء لسبب بسيط وجوهري في آن واحد. فالمقترع وهو ينتخب في المستوى المحلّي وكذلك المترشّح وهو يخضع لعملية الاقتراع، من المفترض أن يعلم صلاحيات المجلس الوطني للجهات والأقاليم مقارنة بالمجلس النيابي. وخلافا للمنطق، تمّ الاقتراع وتمّت القرعة دون أن يكون المترشّح أو الناخب على علم “بالمعلوم من النظام القاعدي بالضرورة”.
لم تكن الجهات التي دعاها رئيس الجمهورية لإعداد النص القانوني في مستوى التطلّعات، وكان الردّ على التأخير في إنجاز القانون بتحويله إلى مرسوم. وكفى الله السياسيين شرّ الاتّهام بالتعطيل والتآمر والعمالة مع الخارج.
عفوا، يبدو أنّ في الأمر ما ينبغي تداركه. ما معنى أن يدعو رئيس الجمهورية إلى تنظيم العلاقة بين المجلسين؟ سؤال يستمدّ شرعيته من أنّ رئيس الجمهورية ذاته هو المعنيّ الأوّل بهذا الأمر. أليْس هو واضع النظام القاعدي؟ أليْسَ هو من يرأس مجلس الوزراء على وجه الحقيقة وليس النيابة؟ أليس إنجاز مشاريع القوانين من اختصاصاته؟ أليست المشاريع التي يقدّمها تحظى بالأولوية؟
يبدو أنّ للدولة التونسية في زمن بعد 25 جويلية سوابق عديدة في تأخير الإنجاز لأسباب شبيهة، ليس هذا المقال هو الفضاء الأنسب لإحصائها. ولنكتف بالإشارة إلى الصلح الجزائي في صيغته الأولى بفترتيْه، وفي صيغته الثانية التي انقضت عهدتها دون أن تتم الدعوة إلى انعقاد مجلس الأمن القومي للفصل والحسم.. ولسنا في حاجة إلى الهمس بأنّ من يدعو إلى الاجتماع هو ذات من دعا إلى التعجيل آنف الذكر. ومعلوم أنّ هذه مجالات لا يمكن أن نستعمل فيها السلّة الدلالية المحتوية عبارات أدناها التسرّب والتعطيل وأقصاها معلوم.
 انبرى البعض على تعداد هنات المرسوم الجديد وثغراته، مع تقديم مقترحات للتعديل، وهُمْ بذلك قد قدّموا خدمةً جليلة لأعضاء المجلسين الذين يُلْزِمُهم الدستور بإعادة النظر فيه. إنّ أهم ما في المرسوم هو تداركُ التأخير في إنجاز نصّ يتيح للرئيس القادم أداء القسم أمام مجلسيْ النواب والأقاليم، وذلك حتى نضمن استمرار “حرب التحرير”.