عبد السلام الزبيدي
اتّخذت السلطات التنفيذية في تونس برئاسة قيس سعيّد دستوريّا وبإشراف أحمد الحشّاني نيابة عنه وفق الصيغة الرسمية المكرّرة عند انعقاد مجلس الوزراء، عددا من القرارات لبعث ديوانيْن الأوّل للأعلاف والثاني لتنمية الجنوب بالإقليمين الرابع والخامس، بالإضافة إلى بعث شركة خفية الاسم ذات مساهمة عمومية تحت اسم ” شركة مدينة الأغالبة الطبية
بالقيروان”.
ولئن وقع الإعلام عن بعث المؤسسة الأولى من خلال البلاغات الرئاسية الفيسبوكية منذ أكثر من نصف عام، فإنّ صدور الأمر المتعلّق بإحداثها، أي ” الديوان الوطني للأعلاف” بالرائد الرسمي للبلاد التونسية كان يوم 5 جانفي 2024، لتتلوه بعد 10 أيّام الخطوة العملية الأولى المتمثلة في انعقاد الجلسة التأسيسية بحضور كل أعضاء مجلس الإدارة، وهم ممثّلون عن عدد من الوزارات والهياكل الحكومية، وفي غياب كلّي لممثّلي المهن الفلاحية.
ولنَحْتفظ بالتاريخ لأهميته القصوى في علاقة بالزمن السياسي، ذلك أنّ تونس عاشت حينها بعض مراحل انتخابات الغرفة التشريعية الثانية ( المجلس الوطني للجهات والأقاليم). والفترة ذاتها تُعتبر ما قبل الرئاسيات التي من المنتظر إجراؤها الخريف القادم.
ديوان الأعلاف.. من التآمر إلى احتكار الدولة
ووفق الخطاب الرسمي المتداول فإنّ من مقاصد رئيس الجمهورية قيس سعيد من بعث هذا الديوان في المقام الأوّل حلّ أزمة الأعلاف مدخلا لحل أزمة منطومتَيْ اللحوم والألبان المترهلّتين. هاتان الأزمتان أجبرتا المواطن التونسي على تحويل استهلاك اللحوم الحمراء إلى أشبه ما يكون بالذكرى بعد أن قفزت أسعار لحوم الضأن من 22 دينارا للكيلوغرام الواحد سنة 2021 إلى 50 دينارا الآن، في حين غدا الفوز بلتر من الحليب أثناء فترة نقص الإدرار مغنما لا يدركه إلاّ من استوطن اللهث بين المحلات التجارية أو ممارسة رياضة الاصطفاف في الطوابير الطويلة.
فعبر ديوان الأعلاف، تأمل السلطات التنفيذية، أو بعبارات دستور 2022 الوظيفة التنفيذية، في كسر حلقات مجموعات الضغط والإثراء والاحتكار ( اللوبيات). وباستعادة منظومة تغذية الحيوانات توازنها تستعيد منظومتا الألبان واللحوم عافيتهما. في حين أنّ البلاد “مكتظة” بالدواوين التي تهتم بالدواجن والحبوب والقوارص والتمور والأراضي الدولية وغيرها. ولم تتمكن أيّ منها من تحقيق الأهداف المرسومة الشبيهة بما رسمه رئيس السلطة التنفيذية قيس سعيد من مقاصد وأهداف للديوان الوطني للأعلاف.
وتكفي إطلالة سريعة على الأمر المتعلق بإحداث الديوان حتى نقف على أنّه أشبه ما يكون بالنسخة الكربونية من النصوص القانونية المؤسسة للمؤسسات الشبيهة. لكن الفارق الجوهري يتعلّق بأمرين أساسيين أوّلهما انفراد السلطة التنفيذية بقرار الإنشاء والتجسيد دون تشريك أهل المهنة، إضافة إلى احتكار الدولة الكلّي للقطاع، وتفصيل القول في هذا الأمر يتطلب فضاء أرحب. أمّا الأمر الثاني فيتعلّق بالسياق السياسي للمقترح وتجسيده.
وينشطر السياق إلى قسمين، أوّلهما تكريس السردية الرسمية القائلة إن قضايا الإنتاج والاستهلاك والوفرة والندرة والأسعار والغلاء لا تُفسّر بالعوامل الموضوعية للسوق والمشاكل الهيكلية والبنيوية أو أسعار مكونات الأعلاف دوليا وحالة القطيع وطبيعة الإنتاج وكلفته، وإنّما تعود كلّ الشرور والمآسي إلى مقولة التآمر واللوبيات والاحتكار، وعندما يؤول الأمر برمّته إلى يد الدولة (السلطة التنفيذية أو الوظيفة التنفيذية)، فإنّ “مياه الأعلاف سترجع إلى مجاري الدواب”، وتستعيد منظومتا الألبان واللحوم توازنهما. ولسنا في وارد تعداد مكامن تهافت هذه المقولات، فتهافتها بَيِّن بذاته.
أمّا القسم الثاني فيتنزّل ضمن الإعداد للانتخابات الرئاسية القادمة التي من المفترض أن يترشح لها رئيس الجمهورية قيس سعيّد. فهذا الديوان يُعتبر إجابة عملية من منظومة الحكم الحالية عن الأرقام الصاروخية للتضخم في قطاع اللحوم الحمراء ( حوالي 30% حسب معطيات المعهد الوطني للإحصاء)، وإجابة كذلك عن أزمات ندرة الحليب.
إنّنا نعيش اليوم في تونس، عملية قتل للانتقال الديمقراطي واغتيال للفعل السياسي. وأحد شروط إمكان تمرير هذا “الخيار السياسي” هو تأمين القوت اليومي للمواطن بما يحفظ الحد الأدنى من “كرامته” أو قُل من قدرته على الاستمرار في الحياة. فسلب الحريات ووأد الديمقراطية في حاجة إلى منجز اجتماعي واقتصادي… وإذا غاب المنجز فلا أقلّ من تقديم سرديّة تحمّل السابق المسؤولية وتفتح أبواب الوعود والآمال، وذلك في انتظار تكرار المقولة السحرية لمنظومة بن علي، ألا وهي “أنجز حرّ ما وعد”.
ديوان تنمية الجنوب.. سحب للبساط ووعود انتخابية
وعلى غرار الديوان الوطني للأعلاف، سارع سعيّد في زياراته “غير المعلنة” لعدد من الجهات الداخلية ومؤسسات عمومية أثقل كاهلها الفساد أو خلال خطب فيسبوكية في مجالس وزارية ضيقة أو موسعة، إلى إعلان بعث مؤسستين جديدتين. وعادة ما يأتي المقترح على لسان رئيس الجمهورية أمّا الصيغة القانونية فيكشف عنها بلاغ رئاسة الحكومة المعلن عن انعقاد مجالس وزارية بتفويض من رئيس الجمهورية وبإذن منه.
المؤسسة الأولى المعلن عن إنشائها، هي ديوان تنمية الجنوب والصّحراء في شكل مؤسسة عمومية ذات صبغة غير إدارية، يتمتّع بمرونة إدارية ومالية، وسيخضع لإشراف وزارة الاقتصاد والتخطيط وسيكون مقرّه بمدينة توزر. وفي هذا استعادة لتجربة سابقة تعمل السلطات التنفيذية على استنساخها وتكريسها من جديد لإحياء الأراضي الصحراوية في الإقليمين الرابع والخامس أي بولايات الجنوب.
وسيساهم الديوان الجديد، حسب رئاسة الحكومة، في ضمان حسن توجيه الاستثمار العمومي للتوظيف الأمثل لكل الإمكانات والموارد الطبيعية والبشرية لولايات الجنوب، لمزيد تنمية هذه المناطق وحسن إدماجها في الحركية الاقتصادية الوطنية.
وتتمثّل مهام الديوان -حسب ما جاء في بلاغ صادر عن رئاسة الحكومة- في تطوير الواحات والزراعات البيولوجية وتثمين الغطاء النباتي الصحراوي وتربية الماشية، خاصّة، منها الإبل فضلا عن تطوير الطاقات البديلة والمتجدّدة (الطاقة الشمسية والجيوحرارية).
كما تتمثّل مهام الديوان الجديد في تنمية الصناعات المرتكزة على المواد المحلية وخاصة منها صناعات البلور انطلاقا من رمال الصحراء وصناعات الجبس، إلى جانب تطوير مشاريع تندرج ضمن السياحة البديلة وخاصة منها السياحة الصحراوية، وإحداث مناطق سياحية جديدة من شأنها تثمين المخزون الطبيعي والحضاري والتراثي للمناطق المعنية.
وسيعمل الهيكل التنموي الجديد على تنمية المناطق التجارية بالمناطق الحدودية خاصة، وتطوير المشاريع التجارية القائمة على المنتجات المحلية.
تلك الفقرات السابقة الواردة في بلاغ رئاسة الحكومة، ليست، في تقديري أكثر من بيان انتخابي سابق للأوان لسحب البساط من جهة سياسية اكتسحت مناطق الجنوب في كل المحطات الانتخابية منذ سنة 2011 إلى 2019. وبهذا الديوان يقدّم المرشّح المفترض للقاعدة الانتخابية وعودا قابلة للتجسيد ويعفي نفسه من سؤال: ماذا قدّمت لنا خلال السنوات الخمس الماضية من عهدتك.
المدينة الطبية.. الرد على “السخرية” بشركة
أعلن مجلس الوزراء المنعقد يوم 3 أفريل الجاري عن إحداث شركة خفية الاسم ذات المساهمة العمومية تسمى “شركة مدينة الأغالبة الطبية بالقيروان” والتي ستتولى إنجاز مختلف الدراسات، وأشغال البنية التحتية، والتعريف والتسويق لمكونات المدينة الطبية، واستغلال الفضاءات المكونة لها، وذلك تحت اشراف وزارة التجهيز والاسكان.
إنّ الاعلان عن تأسيس هذه الشركة يعدّ ردا سياسيا وعمليا من السلطة التنفيذية على حملات التشكيك التي رافقت الحديث عن مدينة القيروان الطبية بهكتاراتها الـ500 وقدراتها التشغيلية (50 ألفا في مرحلة أولى ثم 42 ألفا) ومؤسستها الجامعية.
لقد أعلن رئيس الجمهورية يوم 27 فيفري 2021 أنّ النص المؤسس جاهز، وذكر حين زار منطقة منزل المهيري بالقيروان أنّ القطب سيكون تحت إشراف وزارة الدفاع، وأنّه (القطب) سيكون في شكل مؤسسة عمومية ذات صبغة غير إدارية. وبعد ثلاث سنوات من التأكيد أنّ النص جاهز جاء الإعلان عن بعث الشركة وذلك قبيل أشهر من الانتخابات الرئاسية، رغم التعطيلات الداخلية والخارجية للحيلولة دون تمويل المشروع. ألم نقل أنّ جوهر القضية هو السردية الانتخابية؟!