تونس

سعيد قاقي.. النقابي الذي أبى الخضوع وقضى نحبه تحت التعذيب

اتحاد الشغل يُحيي الذكرى الـ46 لوفاة النقابي سعيد قاقي

معتقلو 25 جويلية

واجه غياهب السجون وذاق ويلات التعذيب والقمع والتنكيل داخل زنازين نظام الرّئيس الأسبق الحبيب بورقيبة وكان رمزا للتضحية والنضال من أجل حقوق العمّال وأبى أن يطلق سراحه وظلّ في سجنه رفقة زملاء النضال إلى أن وافاه الأجل في 9 جانفي 1979، سنة فقط بعد أحداث “الخميس الأسود”.

ويحيي الاتحاد العام التونسي للشغل اليوم الخميس، الذكرى 46  لوفاة النقابي قاقي الذي واجه الطرد والتشريد والتعذيب حتى الموت .

وولد قاقي يوم 5 ماي 1930، بجزيرة جربة بمعتمدية ميدون وتحديدا بحومة الحدادة ميدون.

 التحق بصفوف الدراسة بالمدرسة الابتدائية ابن ماضي «اركو» الحدادة إلى حدود السنة السادسة من التعليم الابتدائي ثم انقطع عن التعليم في سن مبكرة والتحق بوالده في العاصمة في سن الثالثة عشرة وكان والده يعمل بالرصيف بميناء تونس.

باشر قاقي عدة مهن حرة إلى أن استقرّ به العمل بشركة «Castro – Strazola» لبيع المواد الغذائية ومقرها لاكانيا بالعاصمة.

ومن هناك بدأت بوادر العمل النقابي تتحرك بداخله، فالشركة كانت تضم قرابة 60 عاملا عانوا الاضطهاد وحرموا من أسبط الحقوق.

اكتسب قاقي ثقة الجميع وشكّل نقابة في الشركة المذكورة وانتخب كاتبا عاما لها وهو ما مكنه من الالتحاق بهياكل الاتحاد العام التونسي للشغل ونقابييه.

وشغل قاقي عدة مهام ومسؤوليات صلب اتحاد الشغل منها خطة كاتب عام للنقابة الأساسية بشركة «castro-Strazola» وكاتب عام للنقابة الأساسية بشركة تور أفريك وأمين مال بالاتحاد الجهوي للشغل بتونس وكاتب عام للجامعة العامة للمعاش والسياحة وقد كان المرحوم محل  ثقة النقابيين والعملة كافة في جميع القطاعات المنضوية تحت لواء الاتحاد العام التونسي للشغل.

أحداث الباخرة

كان قاقي شاهدا على حادثة الباخرة سنة 1965 التي مازالت عالقة في أذهان النقابيين.

وتعود أطوار الحادثة، حينما احترقت باخرة “الحبيب” التي كانت تربط بين قرقنة وصفاقس وعلى متنها مسافرون توفي منهم 6 أجانب.

وتم إثر هذه الحادثة سجن الحبيب عاشور الأمين العام للاتحاد آنذاك، في خطوة نُظر إليها على أنها رغبة من السلطة في إبعاده.

في الأثناء تحرك قاقي صحبة ثلة من النقابيين  من أجل إطلاق سراح أحد رموز الحركة النقابية الحبيب عاشور وتم لهم ذلك وكللت جهودهم بالنجاح، إلا أن السلطات حينها لم تبق مكتوفة الأيدي وأثار ذلك غضبها ليتم إلقاء القبض على قاقي، وزج به في غياهب السجون مع ثلة من زملائه النقابيين.

تحرك مستمر

خرج من السجن، لكنه ظل رهين وضع اجتماعي صعب، فعاش أشكال الفقر والخصاصة والحرمان سيما أنه كان يعيل عائلة ممتدة تتكوّن من 11 فردا (زوجة و9 أبناء).

والتحق بعدها بسنتين بـ”تورافريك” سائق سيارة سياحية وظل متشبثا بالفكر النقابي وأحدث بها نقابة أساسية تزعمها وواصل نضاله بتوحيد عمال السياحة داخل تراب الجمهورية التونسية.

وترشح قاقي سنة 1973 لمؤتمر الجامعة العامة للمعاش والسياحة ليصبح كاتبا عاما لها.

الخميس الأسود

وفي 20 جانفي 1978 استدعي للمثول أمام النيابة العمومية وفي 26 جانفي من السنة نفسها تم إلقاء القبض عليه بعد مداهمة الشرطة مقر الاتحاد العام التونسي للشغل.

وتزامن ذلك مع أحداث الخميس الأسود التي ظلت عالقة في أذهان التونسيين، حين خرج آلاف النقابيين التونسيين من مختلف القطاعات يوم 26 جانفي 1978 في مسيرات احتجاجا على الأوضاع المتردية، سبقها وصاحبها إضراب عام دعا إليه الاتحاد العام التونسي للشغل.

وكان الاتحاد يطالب بأبسط الحريات والحقوق العمالية، ويرفض توجهات نظام الرئيس الحبيب بورقيبة السياسية والاقتصادية، والقاضية بالانفتاح الاقتصادي.

تنكيل وقمع .. فمرض

وتدهورت الحالة الصحية لسعيد قاقي ولم يستجب طبيب السجن المدني بتونس لطلبه الخضوع للفحص ولخص الفقيد معاناته في رسالة بخط يده كتبها في 22 سبتمبر 1978 ووجهها إلى الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان.

وحوكم سعيد قاقي على معنى أحكام الفصل 72 من المجلة الجزائية وقضت محكمة أمن الدولة بعقابه بستة أشهر مع الإسعاف بتأجيل التنفيذ.

تعرض المرحوم قاقي للتعذيب وشتى أنواع التنكيل والقمع من قبل أجهزة أمن الدولة إلى أن حوكم ضمن القيادة الشرعية صحبة جملة من النقابيين وقد تم نقله إلى عدة مستشفيات إثر تدهور حالته الصحية  جراء التعذيب المتواصل.

وعرض عليه السراح الشرطي لكنه رفض وفضل البقاء قابعا في سجنه صحبة زملاء النضال إلى أن وافته المنية في 9 جانفي 1979 عن عمر يناهز 49 عاما.

توثيق وحفاظ على الذاكرة النقابية 

وقبل سبع سنوات وفي إحدى جلسات الاستماع العلنية لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان التي نظمتها هيئة الحقيقة والكرامة، تحدثت سعاد ابنة سعيد قاقي في إفادتها عن أن العائلة فوجئت بغيابه (قاقي) لأكثر من شهرين دون معرفة وجهته ليعمها قلق وحزن بالغين.

وتطرقت إلى المعاناة التي تعرض لها أفراد أسرتها بعد أن عرفوا جهة اعتقال والدهم، ففي زيارتهم له تعرضوا أيضا لأشكال شتى من التنكيل.

مات سعيد قاقي تاركا وراءه بصمة تاريخ نقابي ونضالي، كان سيخلد لو تم توثيق أهم محطات تحركاته النقابية ضمن وثائقي حتّى تظل ذكراه خالدة لدى الأجيال التي لم تعاصره.

 وهو ما أكده الصحفي كمال الشارني بقوله: “أنا لو كنت مسؤولا في اتحاد الشغل لبادرت إلى جمع تمويل لإنجاز فيلم من ساعة ونصف وانتدبت له أفضل المؤرخين والكتاب والمخرجين لتخليد نضاله وخصوصا خضوعه للتعذيب الوحشي في أحداث جانفي 1978 على أيدي أبناء وطنه الذين طالما دافع عنهم منذ شبابه أثناء الاستعمار ثم في مراحل كثيرة من إنشاء “الدولة الوطنية”.

وتابع “حياته ستكون شهادة إدانة على همجية الدولة تجاه عشرات الآلاف من مواطنيها باعتبار التعذيب عملا حكوميا سياسيا لم يحاسب عليه أحد.”