أدرك جوهر دعوة الإسلام التي تكرّس المساواة والعدالة الاجتماعية، ما زاده تمسكًا بنهجه اليساري الاشتراكي، الذي اعتبره متماهيا مع رسالة النبي محمد.
عمقت دراسته للإسلام من إعجابه بعدد من الشخصيات التي اعتُبرت ذات مكانة مركزية وإنسانية في التاريخ الإسلامي، على غرار الإمام علي بن أبي طالب وأبي ذر الغفاري، بما تضمّنتْه سيرهم من الحكمة والالتزام والزهد وانحياز للبسطاء والمساكين.
روجي غارودي “الفيلسوف المتمرّد” كما يوصف في الأوساط الأكاديمية الفرنسية والغربية، والمفكر الذي عرف الإسلام بعقله ثم قلبه، وكرّس مسيرته البحثية في محاربة خرافات وأساطير الصهيونية، حتى حوكم بجرم الإدانة الفكرية لجرائم إسرائيل وتكذيب المحرقة اليهودية.
كان روجي غارودي أو رجاء كما اختار أن يطلق على نفسه بعد إسلامه، أكثر المفكرين إنتاجًا وكتابة طوال مسيرته التي تميزت بتنوع المحطات والتجارب والمواقع الفكرية، من مرحلة النضال الوطني في مواجهة الاحتلال النازي لفرنسا خلال الحرب العالمية الثانية، إلى خريج كلية السربون وجامعة موسكو في الفلسفة والحريات، والناقد لثوابت المادية الجدلية والمفْعم بنزعة تجديدية للفكر الماركسي.
الموقف الأول مع الإسلام
ترجع لحظة الاكتشاف الأولى للإسلام، والتي غيرت الصورة المغلوطة عن المسلمين وحضارتهم لدى غارودي، إلى فترة اعتقاله بالجلفة في الجزائر سنة 1941 من طرف قوات حكومة فيشي الموالية للألمان.
“قبض علينا ضمن المجموعة الأولى للمقاومة الفرنسية السرية، ونقلنا إلى سجن الجلفة بالجزائر، هناك قمت بتنظيم تمرّد وهو ما دفع قائد المعسكر إلى إصدار أوامره للجنود بإطلاق النار علينا”.
“فاجئني رفض الجنود تنفيذ الأمر حتى بعد تهديدهم بالسياط، ثم عرفت أنهم كانوا من الجزائريّين المسلمين، الذي يؤمنون أن شرف وأخلاق المحارب المسلم تقتضي أنْ لا يطلق النار على إنسان أعزل”.
ويضيف غارودي مبْرزًا الأثر الذي تركته الحادثة لديه، “لقد صوروا لنا المسلم على أنه متوحش همجي، فإذا بي أمام منظومة قيم متكاملة لها اعتبارها، لقد علّمني هذا الموقف واستفدت منه أكثر من استفادتي 10 سنوات في السربون”.
مثلت التجربة حدثًا قادحًا في مسيرة غارودي، انطلق بعدها في بحث معمق في الأديان والحضارات بالتزامن مع دراسته الفلسفة في السربون.
اطلاعه على التاريخ الإسلامي وما قدمته للإنسانية من منجزات، لم يكن محفزه الأساسي بقدر ما كان انبهاره بالنزعة الانفتاحية لرسالة الإسلام، وتفاعلها مع كل الثقافات والشعوب واندماجها في بوتقة حضارية واسعة.
اعتبر غارودي أن العدالة الاجتماعية التي أمر بها الإسلام امتدادًا لقناعاته الاشتراكية، ليظل على عدائه لأمريكا وسياساتها الامبريالية، التي اعتبرها واجبًا انطلاقا من مواقفه كفيلسوف ومسلم في الآن ذاته.
أشهر غارودي إسلامه في الثاني من جويلية سنة 1982 بالمركز الإسلامي في جنيف، بعد رحلة بحث فكرية معمقة ليؤلف بعدها “وعود الإسلام” و”الاسلام دين المستقبل”، لكن أفكاره ظلت عصية على التطويع والاحتواء، خاصة من طرف عديد من الدوائر الإسلامية التي حاولت توظيف شهرة الرجل واسمه، واستغلاله كواجهة للدعاية التي يرفضها.
واجه غارودي انتقادات وصلت حد التكفير بسبب انتقاداته للتيارات الدينية المتشددة، وتبنّيه للنهج الصوفي ذي النزعة الفلسفية الإسلامية، وهو ما أثار ضده شيوخ الوهابية في السعودية.
الصوت الذي يجلد الصهيونية
إلى جانب رحلته الروحية رسّخ غارودي مكانته باعتباره الصوت الذي عرّى أكاذيب الصهيونية، وواجه آلاتها الدعائية في فرنسا و أوروبا، حتى تحولت مقالاته وكتاباته إلى السوط الذي يجلد ادعاءات إسرائيل.
بعد مجزرة صبرا وشاتيلا في لبنان، أصدر غارودي بيانًا احتل كامل الصفحة الثانية عشرة من جريدة لوموند الفرنسية، وكان هذا البيان بداية صدامه مع المنظمات الصهيونية التي شنّت حملة ضده في فرنسا والعالم.
وُصم غارودي بسبب ضغوط اللوبي الصهيوني في أوروبا بتهمة معاداة السامية، لكنه عمل على محاكمتها فكريا وفلسفيا وتعرية أساطيرها المؤسسة لكيان الاحتلال عبْر كشف أكاذيب المحرقة اليهودية، التي وضعتْها إسرائيل كأداة لابتزاز العالم أخلاقيًا وسياسيًا.
في كتابه “الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية”، يعتبر غارودي أنّ أحداث المحرقة ضخّمت وأعطيت أبعاداً أسطورية غير تاريخية، وإن المأساة اليهودية التي وقعت بالكامل على المسرح الأوروبي، تحولت إلى عنوان يغطي على حروب الإبادة وجرائم التقتيل والتهجير القسري التي ترتكبها إسرائيل ضد الفلسطينيّين.
كانت محاكمة روجي غارودي سنة 1998 بتهمة إنكار المحرقة بمثابة صدمة وصمة عار فكرية وتاريخية لكل مثقفي فرنسا ونخبها والتي صمتت تحت ضغوط الدوائر الصهيونية، وهي لحظة وصفها الرجل بأنها عرّت ازدواجية القيم في بلد قامت ثورته على شعار الحرية.