رأي عالم

“رجل أوروبا المريض” يتمرّد على “اتفاقية شنغن”!

محمد بشير ساسي

معتقلو 25 جويلية

لم يقفْ صعود اليمين المتطرف غير المسبوق إلى المشهد الألماني (منذ نهاية الحرب العالمية الثانية) عند حدود تحقيق حزب “البديل من أجل ألمانيا” مكاسب كبيرة في انتخابات تاريخية بولايتي تورينغن وساكسونيا، بل امتدت على يبدو ارتدادات ما وصف بـ”الزلزال السياسي” إلى طريقة تعامل الحكومة المتعلّقة بملف الهجرة الشائك والذي أثار جدلا واسعا في ألمانيا والفضاء الأوروبي بشكل عام.

إجراءات صارمة

خلافا لحكومة المستشارة السابقة أنغيلا ميركل التي انتهجت سياسة الحدود المفتوحة باستقبال اللاّجئين الفارين من الحروب والاضطرابات (أكثر من 2 مليون سوري وأوكراني)، بدا واضحا أنّ الحكومة الحالية رضختْ لمطلب الحزب المسيحي الديمقراطي وشقيقه البافاري الاتحاد المسيحي الاجتماعي رغم فشل المحادثات المحتدمة في البرلمان بشأن تنفيذ عمليات رفض شاملة لطالبي اللجوء على الحدود لألمانيا.

وجد المستشار أولاف شولتس نفسه أمام خيار إرسال “إشارات صارمة” مفادها “لا تتراجع قيد أنملة عن إغلاق الباب للحدّ من الهجرة غير القانونية، لكنه في المقابل ترك الباب مفتوحا أمام الهجرة “الجاذبة للعمال المهرة” من أجل تعزيز النمو الاقتصادي مشدّدا على الانفتاح على العالم لا يعني أنّ أيّ شخص يريد أن يأتي يمكنه المجيء”.

على الأرض فعّلت السلطات الألمانية إجراءات توسيع الرّقابة على جميع حدود البلاد، في محاولة منها -كما تقول- للحدّ من الهجرة غيرِ القانونية والجريمة المنظمة وتسلّل الإرهابيين.

ودخلت هذه الضوابط الحدودية حيّز التنفيذ منذ الاثنين الماضي ولمدة 6 أشهر قابلة للتجديد، مع كل من فرنسا وهولندا والدانمارك وبلجيكا ولوكسمبورغ، فيما تم تطبيق الإجراء نفسها مع سويسرا وجمهورية التشيك وبولندا الخريف الماضي، بينما تخضع الحدود النمساوية للمراقبة منذ عام 2015.

وحسب وزيرة الداخلية الألمانية نانسي فيزر فإنّ عمليات التفتيش على حدود برية يتجاوز طولها 3700 كيلومتر مع 9 دول ستتم بشكل عشوائي وطريقة انتقائية ذكية للعربات وفحص هوية الأشخاص، ولن تكونَ سببا في الازدحام المروري على الحدود يعبرها كل يوم أكثر من 240 ألف عامل، حسب تصريح المسؤولة الألمانية.

ووفقا للخطط التي أعلنتها فيزر سيتم جمع العديد من اللاجئين في المناطق الحدودية وإعادتهم إلى دول الاتحاد الأوروبي المجاورة بسرعة أكبر، باستخدام إجراءات استعجالية. كما تسعى وزارة الداخلية أيضا إلى توسيع خيارات الاحتجاز المتاحة لدى السلطات الأمنية.

مناخات مؤثرة

في الواقع ثمة عدة عوامل ومناخات مؤثرة -برأي مراقبين ومختصين بالشأن الألماني والأوروبي- فرضت ملف “الهجرة” بقوة على طاولة النقاشات السياسية في ألمانيا على مدار السنوات الماضية وتحديدا خلال الفترة الأخيرة.

صعود قوي للأحزاب والائتلافات اليمينية المتطرفة في بعض البرلمانات الأوروبية (مثل ألمانيا، فرنسا، هولندا، بولندا، النمسا، الدنمارك، السويد) فضلا عن الوصول إلى قمة السلطة في كل من بولندا والمجر وإيطاليا.

هذا بالإضافة إلى صعودها داخل البرلمان الأوروبي الحالي؛ إذ يشكّل مؤيّدو اليمين المتطرف ما يقرب من ثلث الأعضاء، الأمر الذي يُشير إلى أنّ ثمَّة اتجاها بارزا للتطبيع مع الظاهرة وانتقالها من الهامش إلى التيار الرئيس في معظم الدول الأوروبية.

وقد عرَّفت هذه الأحزاب نفسها باعتبارها البديل الحقيقي الوحيد وصوت الأغلبية الصامتة التي تتجاهلها النخب الحاكمة، كما تُلقي باللائمة على الأحزاب التقليدية فيما تُطلق عليه “العواقب الوخيمة للهجرة”، زيادة على انتقادها سياسات التعددية الثقافية التي تتبعها الحكومات الأوروبية، وإصرارها على تأكيد أهمية القيم الثقافية والهوية الوطنية.

ارتفاع معدّلات “الهجرة غير النظامية” إلى دول الاتحاد الأوروبي بشكل ملحوظ خلال عام 2023، حيث دخل أكثر من 380 ألف “مهاجر غير شرعي” وينحدر معظمهممن سوريا وتركيا وأفغانستان ويقصدون طلب اللجوء في ألمانيا. وتعدّ هذه الأرقام -حسب وكالة حرس الحدود وخفر السواحل الأوروبية (فرونتكس)- هي الأعلى منذ عام 2016.

وتشهد ألمانيا التي استقبلت زهاء مليون لاجئ أوكراني خلال العام الماضي، تزايدا في أعداد طلبات اللجوء بنحو 77%، مسجّلة أكثر من 204 آلاف طلب، وفق المكتب الفدرالي للهجرة واللاجئين.

وزادت السلطات الألمانية عدد أفراد الشرطة المكلّفين في المنطقة الحدودية في الأشهر القليلة الماضية مع ارتفاع أعداد المهاجرين، إذ سجلت الشرطة الفدرالية 70 ألفا و753 حالة دخول غير قانونية إلى البلاد بين جانفي وأوت هذا العام بزيادة 60% تقريبا مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي.

ربط عديد الأصوات السياسية والتقارير الإعلامية ارتفاع معدّلات الجريمة في ألمانيا بزيادة أعداد المهاجرين، الأمر الذي ضاعف حجم الضغوط على حكومة المستشار شولتز، خاصة بعد عملية الطعن التي شنّها مهاجر أفغاني وأسفرت عن مقتل شرطي في مدنية منهايم وكذلك حادثة طعن ثانية بمدينة زولينغن -أودت بحياة 3 أشخاص- نفّذها شاب سوري (26 عاما) وتبناها تنظيم داعش.

بعد هاتين العمليتين، قرّرت الحكومة الفدرالية الألمانية تنفيذ أول عملية ترحيل لمجموعة من اللاجئين الأفغان الذين ارتكبوا جرائم في ألمانيا إلى بلدهم الأصلي، وذلك للمرة الأولى منذ عودة حركة طالبان إلى السلطة في أوت 2021.

تأييد نسبة كبيرة من الألمان (فوق 60 عاما تقريبا) تشديد الرقابة على الحدود للحدّ من الهجرة غير النظامية، ووفق استطلاع للرأي أجراه معهد “يوغوف” لقياس مؤشرات الرأي، فإنّ 71% من الألمان أيّدوا الطرد المباشر على الحدود في حين أعرب 45% منهم فرض رقابة على الحدود بشكل كامل وإغلاق محتمل لها وسيلةً لإدارة الهجرة.

وبالإضافة إلى ذلك، أيّد 82% من الألمان زيادة عمليات ترحيل الأفراد الذين ليس لديهم حق قانوني في البقاء في ألمانيا، بينما عارض ذلك 11%. ولم تحدّد 7% موقفها من الأمر.

تأثّر الاقتصاد الألماني بشكل كبير منذ صدمة الطاقة بسبب الحرب الروسية على أوكرانيا، فضلا عن ارتفاع التكاليف بعد جائحة كورونا والمنافسة الصينية الشرسة إلى جانب ضعف الإيرادات في مبيعات المجموعة من السيارات الكهربائية.

وجاء “الزلزال السياسي” ليؤكّد بوضوح أنّ صعود اليمين المتطرف في انتخابات ولايتي تورينجيا وساكسونيا سيشكل ضربة جديدة للائتلاف الحاكم في برلين، وخلق المزيد من عدم اليقين بشأن قدرة ألمانيا لجذب الاستثمار.

واكتمل مشهد التوجس، حين فاجأ عملاق السيارات”فولكس واغن” (يوظف أكثر من 600 ألف شخص حول العالم) الجميع بإعلان نيته إنهاء اتفاقية عمل دامت لعقود، وربما إغلاق مصانع محلية بسبب تراجع الطلب.

كما خفضت شركة “بي إم دبليو” توقّعاتها لأرباح العام بأكمله، وفاجأت شركة “يوني كريدت” المستثمرين بالإعلان عن استحواذها على 9% من أسهم “كوميرز بنك” مما أثار دهشة الحكومة.

وتفيد وكالة الإحصاء الألمانية تسجيل الاقتصاد الألماني انكماشا العام الماضي بلغ 0.3 %، فيما توقّعت معاهد اقتصادية تسجيل الناتج المحلي الإجمالي زيادة بنسبة 0% العام الجاري.

ويعيد هذا الوضع إلى الأذهان عنوانا لمجلة “ذي إيكونوميست البريطانية الشهيرة التي وصفت عام 1999 الاقتصاد الألماني بأنّه “رجل أوروبا المريض” بسبب افتقاره إلى القدرة التنافسية وارتفاع معدّلات البطالة، حيث تشير أرقام وكالة الإحصاءات الفدرالية إلى تراجع الاقتصاد الألماني بنسبة 0.1% في الفصل الثاني من العام الحالي على عكس زيادة طفيفة في الفصل السابق.

وشهدت الفترة من أفريل حتى جوان تراجعا بـ4.1% في الاستثمارات في الآليات والمعدات وتراجعا بـ2% في الاستثمارات في مجال البناء، كما تراجع استهلاك العائلات بـ0.2% عن الفصل السابق كما تراجعت الصادرات في ظل ضعف التجارة الخارجية.

منعطف خطير

مع بدء السلطات الألمانية تشديد إجراءات المراقبة المؤقتة على حدودها البرية، وضعت وحدة الكتلة الأوروبية على المحك وبالخصوص اتفاقية شنغن وحرية التنقّل بين أعضاء الاتحاد الأوروبي بعدما جذبت الاجراءات انتقادات جيران ألمانيا على الحدود.

وأعربت عدد من الدول الأوروبية عن استيائها، إذ وصف رئيس الوزراء البولندي دونالد توسك ذلك بـ”الأمر غير المقبول”، مضيفا أنّ وارسو ستطلب محادثات عاجلة مع جميع البلدان المتضررة، كما حذّرت اليونان والنمسا من عدم قبولهما استقبال المهاجرين الذين رفضتهم ألمانيا، فيما ذكرت المفوضية الأوروبية بأنّ مثل هذه القرارات الأحادية يجب أن تظل “استثنائية”.

فألمانيا التي لطالما اُعتبرت من أهم الدول المدافعة والداعمة لاتفاقية شنغن (وقعت عام 1985 وتتيح لحوالي 420 مليون شخص من 29 دولة أوروبية السفر بحرية دون مواجهة ضوابط حدودية) ترى -برأي محلّلين- أنّ هذه الاتفاقية وصلت إلى نهايتها” لأن بنودها كانت مواتية قبل 25 عاما عندما كانت أعداد المهاجرين ضئيلة، لكن الضوابط الحدودية والانتقائية أصبحت ضرورية الآن، بسبب التدفق الهائل للأجانب.

وبالتالي تعطي برلين لنفسها الحق الكامل في اتخاذ هذا النوع من القرارات عندما تتيقّن من وجود خطر وشيك على أمنها الداخلي دون إبلاغ المفوضية الأوروبية مسبقا لإعطائها الضوء الأخضر لتطبيق المراقبة الحدودية، دون تحذير جيرانها الأوروبيين قبل إدخال الإجراءات حيز التنفيذ.

ويثير هذا المنعطف الخطير في طريقة تعامل برلين مع ملف الهجرة واللّجوء مخاوف المهاجرين، وخاصة القادمين من دول عربية أو إسلامية حتى إن كانوا حاصلين بالفعل على حق الإقامة أو حق اللجوء في ألمانيا، حيث يرون الحكومة الألمانية الملتزمة بالقانون الأوروبي والأفكار الليبرالية تضحّي اليوم بالحرية الفردية باسم ضمان الأمن، وتضفي طابع الشرعية على هذه الإجراءات من خلال جعلها مؤقتة فقط.

وعموما يعكس -برأي كثيرين- تخلّي ألمانيا عن سياسة الباب المفتوح أمام المهاجرين الخلط السياسي السلبي بين الهجرة واللجوء والإسلام والإرهاب الذي تروّج له الأحزاب اليمينية المتطرفة، وهو ما يثير تساؤلات حول مستقبل الديمقراطية والتعايش الاجتماعي في ألمانيا والفضاء الأوروبي عموما.