تونس

رائدات الحركة النسائية في تونس…إسهامات تاريخية ووطنية تواجه التغييب والتهميش

يصنفن ضمن السياقات والبحوث الأكاديمية بكونهن صانعات النهضة النسائية الحديثة في تونس، من خلال أدوارهن ومساهمتهن المختلفة على صعيد العمل العام، وضمن الحركة الوطنية خلال حقبة الاستعمار الفرنسي.

وفي حديث خصت به بوابة تونس، تصفهن الباحثة الأكاديمية دلندة الأرقش، “بأنهن أول من لعبن دورًا تاريخيًا في الخروج بالفعل النسائي من الفضاء الخاص إلى الفضاء العام”.

بشيرة بن مراد وآسيا غلاب ورفيعة برناز وطاوس الشرايطي وغيرهن، رائدات تونسيات لعبن أدوارا فاعلة في نشأة الوعي النسوي الحديث، ورسخن حضور المرأة من خلال انخراطهن المبكر في العمل الجمعياتي والسياسي، وتحرير النساء من جبة الفكر والتقاليد المحافظة التي كانت غالبة على المجتمع التونسي في تلك المرحلة، وتقصر دور المرأة عند حدود الخدمة البيتية والزينة الجسدية.

إسهامات تاريخية مغيبة

على الرغم من البصمة التاريخية التي رسختها أولئك الرائدات في نهضة المرأة التونسية الحديثة وتحريرها، إلا أن الجهد التوثيقي والتاريخي لا يزال مقصرا في إبراز مكانتهن وتسليط الضوء على الأدوار اللواتي لعبنها من مواقع مختلفة، فالمقالات التي تتحدث عنهن قليلة وتكاد لا تغادر سياق الدراسات الأكاديمية والجامعية المتخصصة، لتبقى ضمن إطار محدود ما يزال بحاجة إلى جهد أوسع واكبر للتعريف بإسهامات الرموز النسائية الوطنية ورد الاعتبار إليهن.

هن مناضلات تمردن على العرف السائد اجتماعيا وفكريا، ومثلت حركتهن مبادرات انضافت إلى مسار طويل على مستوى الفكر والفعل، حتى أن بعض الدراسات المتخصصة تصنف بعض الأسماء على غرار بشيرة بن مراد مؤسسة أول اتحاد نسائي وطني، وآسيا غلاب أول مرأة تتقلد موقعا قياديا رفيعا بالحزب الدستوري، بأن تجربتهن استمرار لفكر الطاهر الحداد وخطه التنويري.

فإلى جانب دورها السياسي في العمل الوطني، والذي تخللته السجون والمعتقلات خلال سنة 1952 وتكلل بانتخابها بالمجلس الملي بالحزب الدستوري الجديد سنة 1955، تعد آسيا غلاب مؤسسة العمل النسوي صلب الحركة الكشفية التونسية، من خلال تركيزها أول فرع للمرشدات في ولاية نابل سنة 1951.

في خطابها الذي ألقته بمعهد “كارنو” بالعاصمة سنة 1955 كانت المناضلة بشيرة بن مراد أول من نادت بالمساواة بين المرأة والرجل لكن إسهاماتها لا تختزل عند هذا الحد، إذ تعد صاحبة دور غزير في تعليم النساء، وتأسيس صحيفة تونس الفتاة إلى جانب نشاطها صلب الاتحاد النسائي التونسي.

مقاومات على خط النار  

حملت السلاح إلى جانب المقاومين خلال فترة العمل الفدائي والكفاح المسلح في مواجهة الاحتلال بين 1952 إلى 1954، ولعبت دورًا في تنظيم المقاومين الفلاقة وإيصال السلاح والمؤونة إليهم، بشكل لا يقل عن بطولات زوجها المناضل الراحل الأزهر الشرايطي.

استغرق إعادة الاعتبار للمرحومة طاوس الشرايطي زوجة “أسد عرباطة” كما يطلق عليها عقودا طويلة، واجهت خلال التغييب القسري من نظام بورقيبة وبن علي على حد سواء، قبل أن يسلط الضوء أخيرا وبعيد الثورة على دورها الوطني كإحدى القامات النسائية في العمل النضالي النسائي.

مناضلة برتبة أميرة

زكية باي مناضلة برتبة أميرة، طمست دولة الاستقلال ذكرها ومشاركتها الهامة في النضال الوطني كشخصية رائدة في الحركة النسائية، لا لشئ سوى لكونها سلسلة أسرة البايات التي كانت بورقيبة يكن لها كراهية سياسية وشخصية مسعورة، ما أدى إلى تجاهلها في التاريخ الوطني برغم دورها الواسع في العمل الخيري إلى جانب الفقيدة رفيعة برناز والتضحيات التي قدماتها لجمع الأسلحة والمساعدات للمقاومين في الجبال ورعاية الفقراء.

حضور تاريخي في مواجهة عقلية ذكورية

يلفت الباحث والأكاديمي عبد الجليل بوقرة في حديثه لبوابة تونس، إلى أن حضور المرأة في تونس قديم ومؤثر من مراحل تاريخية مبكرة، تبدأ  من عليسة مؤسسة قرطاج وصولا إلى شخصية الكاهنة البربرية ومكانتها السياسية والعسكرية ،مرورا بمراحل متقدمة في التاريخ التونسي شهدت ظهور شخصيات مثل عزيزة عثمانة والسيدة المنوبية، وذلك في خضم مراحل عرفت انغلاقا بالمجتمع التونسي وهيمنة النزعة الذكورية.

ويفسر بوقرة تغييب الكثير من صانعات الحركة النسائية في تونس على المستوى الإعلامي والتاريخي وتهميشهن من الذاكرة الوطنية، بتاريخ الفكر السياسي في تونس والذي تغلب عليه النزعة الذكورية بما يؤثر في توجيه مناهج التعليم والإعلام وحركة التأريخ.  

ويشير محدثنا إلى أن “إسهامات التيار التحديثي ضمن الفكر السياسي في تونس ضلت محتشمة في مواجهة التيار التقليدي المحافظ، ما أدى إلى عدم ترسيخ  مكانة اكبر لرائدات الحركة النسائية، رغم الأدوار التي اضطلعن بها في مجال العمل الحقوقي والحريات و تطوير حضور المرأة في العمل العام”.

تأخر جهود التدوين  

من جانبها ترى أستاذة التاريخ بالجامعة التونسية دلندة الأرقش في حوار مع بوابة تونس، أن تأخر عملية توثيق وتدوين الحركة النسائية في تونس، والتي بدأت في مرحلة الثمانينات، كان لها تأثير مباشر في عدم تعزيز مكانة قيادات ورموز الحركة النسوية في تونس في الذاكرة والتاريخ .

“توسع حضور المرأة في الفضاء الجامعي والذي شهد أوجهه خلال تلك المرحلة، فتح الباب أمام هذا المبحث وكتابة تاريخ الحركة النسائية”، تضيف محدثتنا وهو أمر لم يكن محل اهتمام من جانب الباحثين قبيل تلك المرحلة.

الأستاذة الأرقش بينت أن تدوين إرث الرائدات النسائيات انطلق من الصفر نتيجة غياب الاهتمام السياسي بعد الاستقلال بجمع نضالات النساء التونسيات، ما جعل العملية مع انطلاقها في مرحلة متأخرة معقدة ومحفوفة بالصعوبات البحثية.

وعلى الرغم الدور الذي لعبته عديد المنضمات الوطنية والنسائية في إعادة الاعتبار لعديد الشخصيات التونسيات، إلا أن الأستاذة الأرقش ترى أن الثقافة المجتمعية السائدة والتي ما تزال مستمرة إلى ما بعد الثورة، كان من بين أبرز عوامل تغييب إسهامات رائدات الحركة النسائية وعدم تثمين إسهاماتهن في المجال الجامعي والإعلامي.